الخميس، 29 أكتوبر 2015

الهِجرة القادمة



لا تخفى على أحد الهجرة الجماعية للسوريين والعراقيين وغيرهما إلى الدول الأوربية والشرقية هرباً من الظُلم والظَلمة وبطش الطغاة، وفِراراً من القتل المنتظر والموت المحتوم، فالصور الحية المأساوية التي تحَرق القلب ألماً والنفس رعباً وفزعاً وحسرة، تَنْقُلها جميع وسائل الإعلام الغربية والشرقية وشاهدها كل إنسان يعيش فوق سطح الأرض.

ولكن الموجة القادمة والسيل الجديد من المهاجرين في المستقبل القريب لن تكون فقط من سوريا والعراق، ولن تكون لأسبابٍ أمنية وسياسية بحتة خوفاً على حياتهم من المستبدين، أو عوامل اقتصادية طلباً لحياةٍ أفضل ووضعٍ مالي أوفر وأحسن، ولكن  التيار الأوسع نطاقاً والأكثر شدة وتدفقاً من المهاجرين سيكون نتيجة لتدهور الوضع البيئي في الكثير من دول العالم وارتفاع تركيز بعض الملوثات في الهواء الجوي، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون، وتداعياته المزمنة على المناخ على المستويين الإقليمي والدولي، وانكشاف ظاهرة جديدة تتمثل في ارتفاع درجة حرارة الأرض والتغير المناخي المشهود لكوكب الأرض.

فالعوامل البيئية بشكلٍ عام أصبحت الآن تفرض نفسها على الساحة الدولية منذ أكثر من قرن، وانعكاساتها عبرت الحدود الجغرافية المصطنعة والضيقة بين الدول، وتحولت إلى مشكلات عالمية تهم كل مواطن يعيش على وجه الأرض، وتتضرر منها كل دول العالم بدون استثناء، كما أن تداعياتها تغيرت من بيئية وصحية واقتصادية إلى الجوانب المناخية المتعلقة بالحياة اليومية لكل إنسان.

فعندما ترتفع درجة حرارة الأرض نتيجة لتلوث الهواء، يتسبب هذا في وقوع الكثير من المظاهر والمشكلات منها ارتفاع درجة حرارة مياه البحار والمحيطات وتمددها مع الوقت، مما يؤدي إلى حدوث الفيضانات وتيار المد العاتية والأمواج العالية وغيرها من الظواهر المناخية الحادة والكارثية التي تهلك وتدمر القرى والمدن الساحلية وتغرق الجزر الصغيرة، وتُزيل كل شيءٍ يقف أمامها وفي طريقها، وتُشرد السكان من منازلهم وقراهم فتجعلهم نازحين في ملاجئ ومساكن مؤقتة في دولهم، أو مهاجرين إلى دولٍ أخرى مجاورة بحثاً عن السلامة من شُرور وأضرار هذه التقلبات والتغيرات المفاجئة في الطقس.

وأثناء كتابتي لهذه السطور وقبل أن يجف حِبْر قلمي، جاء واقعياً وفي الميدان الحَدَثْ الذي يُسند ويثبت ما ذكرته الآن، فقد تناقلت وسائل الإعلام خبراً خلاصته بأن اعصاراً شديداً وقاسياً هَزَّ شمال الفلبين وبالتحديد مدينة كاسيجوران(Casiguran) في العشرين منأكتوبر من العام الجاري، وأُطلق عليه "إعصار كوبو "، حيث ضرب هذا الإعصار هذه المدينة والقرى من حولها فجاء بريحٍ صرصرٍ عاتية بسرعة نحو 210 كيلومترات في الساعة، وحمل معه الأمطار الغزيرة والقوية، مما أدى إلى تكسر أغصان الأشجار واقتلاعها من جذورها، وقطع الأسلاك الكهربائية وتوقف الطاقة الكهربائية كلياً من المدينة، إضافة إلى هدم الجسور والمنازل، وقتل العشرات من السكان، وترك مئات الآلاف من المواطنين لمنازلهم وقراهم الساحلية والفرار نحو مناطق مرتفعة وآمنة تحميهم من هذا التغير المناخي الحاد، فأصبحوا الآن "لاجئو المناخ" أو "اللاجئون البيئيون"، فلا أحد يعرف مصيرهم وحتى متى سيبقون لاجئين بدون منزلٍ أو مسكن.

ولا أدعي هنا بأن التغير المناخي الناجم عن تلوث الهواء الجوي هو السبب الوحيد الذي أدى إلى نزول هذه الأعاصير والفيضانات والظواهر المناخية المميتة الأخرى في الفلبين وغيرها من دول العالم ونجم عنها هذا السيل العرم والمد المتواصل من المهاجرين البيئيين، فهناك أسباب طبيعية دورية مناخية تقع على الكرة الأرضية بشكلٍ عام وتحدث أضراراً كبيرة على البشر والحجر.

فالحقيقة العلمية الدامغة والتي يُجمع عليها كل العلماء وتؤيدها حكومات دول العالم حالياً هي أن أنشطة البشر المطردة وأعماله التنموية المتزايدة منذ أكثر من قرنين، وبخاصة في الدول الغربية والدول الصناعية الكبرى الأخرى، وما صاحبها من انبعاثٍ شديدٍ لملايين الأطنان من الملوثات إلى الهواء الجوي، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما، هي التي أسهمت بدرجةٍ ما في تفاقم الأوضاع المناخية للكرة الأرضية وانكشاف ظواهر محددة أدت إلى الكوارث البشرية والهجرة الجماعية لأسباب بيئية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق