الخميس، 7 أبريل 2016

هل هناك حاجة لمعاهدة دولية حول الزئبق؟



هل يستحق عنصر كيميائي واحد كالزئبق من بين 118 عنصراً معروفاً لدى البشر هذا الاهتمام العالمي الحصري غير المسبوق، وهذه المعاملة الخاصة؟

وهل يستأهل هذا العنصر أن تَشُد وفود دول العالم رِحالها مراتٍ ومراتٍ عديدة للسفر من أجل المشاركة في مؤتمرات خاصة للتفاوض حول اتفاقية للأمم المتحدة مختصة بكيفية التعامل مع الزئبق وحده فقط دون سواه من العناصر الكثيرة التي تم اكتشافها والملوثات التي تشبعت بها بيئتنا؟

فهذا الاهتمام غير العادي بالزئبق لم يأت اعتباطاً، ولم يكن من فراغ بين عشيةٍ وضحاها، وإنما تاريخ الزئبق الطويل المظلم والأسود مع الإنسان، والخبرات الكارثية التي تراكمت عبر الزمن مع هذا العنصر القاتل هي التي فَرَضتْ نفسها، وأجبرت دول العالم قاطبة على التحرك سريعاً، وبجهودٍ جماعية مشتركة لمواجهته والتصدي له وكَبح جِمَاحَه، ومنع أضراره وسلبياته المهلكة للحرث والنسل والأخضر واليابس على العالم والناس أجمعين. 

وفي الحقيقة فإنني لا ألوم الزئبق على هذا السجل غير المشرف والمليء بالمآسي والكوارث والآلام المريرة لبني البشر، ولكنني أُلقي العتاب واللوم كلياً على الإنسان نفسه، فهو الذي سمح بدخول الزئبق في بيئةٍ غير بيئته، وفي وسطٍ لا يتوافق مع خصائصه وطبيعته، وفي المكان الذي لا يتناسب مع مهماته ودوره في الحياة وفي النظام البيئي بشكلٍ عام.

فمن أشد الكوارث التي نزلت على الإنسان نتيجة لما ارتكبت يداه، وبسبب جهله، وقلة علمه، وشح خبرته في التعامل مع الملوثات والمواد الكيميائية هو ما وقع في مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا في اليابان، والتي انكشفت مشاهدها الأولى أمام الملأ في الخمسينيات من القرن المنصرم، عندما قام أحد المصانع بالسماح لصرف المخلفات الصناعية السائلة المحتوية على الزئبق إلى ساحل خليج ميناماتا.

ففي تلك الفترة الزمنية لم يعلم أحد أن الزئبق عنصر مستقر وثابت في الأوساط البيئة، وأنه لا يتحلل مع الزمن، بل وله القدرة على التراكم والتضخم في مياه البحار، ثم في القواقع والمحار وفي الأسماك، وأخيراً في الإنسان والكائنات الحية الأخرى من الطيور والحيوانات البرية التي تعيش على الأسماك، إضافة إلى أن الإنسان كان يجهل بأن عنصر الزئبق عندما ينتقل إلى التربة القاعية للبحار فإنه يتحول إلى الزئبق العضوي الأشد فتكاً بصحة الإنسان والأكثر سمية وتدميراً لكل كائن حي يتعرض له. فمع استمرار إلقاء مخلفات الزئبق في البحر، ارتفع تركيز هذا الشبح المرعب الخفي، وزاد تراكمه في أجسام الكائنات البحرية، وتضخم تركيزه في أعضاء جسم الإنسان حتى بلغ المستوى الحرج الذي بدأ الناس بالآلاف يتساقطون صرعى واحداً تلو الآخر، ويُصابون بأعراضٍ مرضية غريبة ومخيفة قَبْل أن يلقون نحبهم كفقدان البصر، والشلل، وعدم القدرة على الكلام، وآلام وتشوهات في المفاصل.

وهذه الطامة الكبرى والمحنة العظمى التي أصابت سكان ميناماتا، تكررت مشاهدها في مدنٍ أخرى في اليابان، وفي دول كثيرة خارج اليابان، مما اضطر دول العالم إلى التدخل العاجل بشكلٍ جماعي تحت مظلة الأمم المتحدة لوضع حدٍ لهذه المعاناة البشرية التي عمَّت أرجاءً شاسعة من الكرة الأرضية وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من البشر بين صريعٍ وجريح، فاجتمعت وفود كل دول العالم مراراً وتكراراً لمناقشة هذه الكارثة الصحية البيئية حتى وصلوا إلى معاهدةفي 11 أكتوبر2015أُطلق عليها اتفاقية ميناماتا للزئبق(Minamata Convention on Mercury)، واليوم وقعت عليها 128 دولة وصدَّقت عليها 24 دولة، وقريباً ستكون ملزمة وقابلة للتنفيذ دولياً.

ولذلك ومنذ أكثر من سبعين عاماً دخل الزئبق تحت أضواء البشر، وأصبح من الملوثات المطلوب دمها حية أو ميتة، فالمصائب الكبرى التي جاءت من ورائه هزَّت العالم برمته وحفرت في جسمه جُرحاً لن يندمل، فأجبرته إلى مكافحته والتصدي له وإزالة جذوره من أعماق المجتمع البشري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق