الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

شعوبٌ تموت من الجوع وشعوب تموت من التُّخْمة


من المفارقات المبْكية والمحزنة التي نراها أمامنا في وسائل الإعلام ونشاهدها بأُم أعيننا ليلاً نهاراً موت شعوبٍ برمتها من شدة الجوع ونقصٍ حادٍ في المواد الغذائية، وموت شعوبٍ أخرى ولكن من شدة السمنة وارتفاع نسبة البدانة المفرطة والتُّخْمة المزمنة، وفي الوقت نفسه هناك شعوب تُعاني من الفقر الغذائي المدْقع وشح الطعام وسوء التغذية فتبحث عن فتات الطعام وفضلات الغذاء في حاويات القمامة من أجل لقيمات يُقِمْن صُلبهم، وفي المقابل هناك شعوب أخرى امتلأت بطونها فقامت بالتبذير في غذائها فرمت بأطيب الطعام في سلات وحاويات الفضلات.

 

فهناك عدة أسباب تؤدي إلى انكشاف هذه المظاهر المتفشية في المجتمعات البشرية وهذا الوباء الدولي المؤلم والاستنزاف غير المبرر للمواد الغذائية، منها الحروب التي تشهدها بعض الدول والحصار الغذائي المطبق على المناطق التي تقع في خارطة المعارك الدائرة فيها، كما هو الحال الآن في سوريا، ومنها سوء الإدارة والتوزيع غير العادل للموارد الغذائية بين دول العالم والإسراف والتنطع الفاحش في إنتاج الغذاء، إضافة إلى التعامل غير المسئول مع بقايا الطعام غير المستهلك، وهذا العامل هو الذي أريد أن أُركز عليه في مقالتي هذه.  

 

فالحقائق والإحصاءات المنشورة حول العالم تؤكد واقعية هذه المفارقات والتناقضات في أحوال الناس من الناحية الغذائية ومن ناحية إنتاج المخلفات، سواء بين الشعب الواحد في الدولة الواحدة، أو بين شعوب العالم على المستوى الدولي. فعلى المستوى الدولي، تُشير الإحصاءات أن دول العالم تُنتج زهاء أربعة بلايين طن متري من الغذاء سنوياً، ولكن هذه الكمية من الغذاء لا تصل إلى بطون البشر، فنحو 30 إلى 50% من هذا الطعام، أي ما يُقارب من 1.2 إلى 2 بليون طن يذهب هدراً دون الاستفادة منه، وهذا الهدر الغذائي يقدر بنحو 750 بليون دولار سنوياً، والولايات المتحدة الأمريكية وحدها فقط ترمي قرابة 60 مليون طن سنوياً من المواد الغذائية، أي أن 30% من غذائها يجد طريقه إلى حاويات المخلفات، وهذه الكميات تقدر مالياً بنحو 161 بليون دولار سنوياً، ودول الاتحاد الأوروبي تهدر نحو مائة مليون طن سنوياً من المواد الغذائية، وإيطاليا وحدها ترمي أكثر من 17% من غذائها في القمامة، أي زهاء 5.1 مليون طن، وهذه الكميات الضخمة تقدر بنحو 14.5 بليون دولار. أما في بريطانيا فقد أكدت دراسة أن الشعب البريطاني يلقي كميات كبيرة من المواد الغذائية في سلات القمامة تساوي نحو 10 بليون جنيه، حيث أفادت هذه الدراسة إلى أن المواطن البريطاني يلقي يومياً 4.4 مليون تفاحة، و 1.6 مليون موز، و 1.3 مليون حاوية للروب، و 660 ألف بيضة، و 550 ألف دجاجة، وفي المقابل أفادت دراسة إلى أن الفقر في بريطانيا في ازدياد وأعداد الجوعى في ارتفاع،فهناك نحو 13.2 مليون يعيشون في فقر، منهم 5.8 يعانون من الفقر المدقع.

 

فهناك عدة مصادر أو أسباب تقف وراء هذه التناقضات الغريبة فتؤدي إلى سوء إدارة الموارد الغذائية وتنجم عنها ملايين الأطنان من مخلفات الطعام التي تذهب إلى مواقع الدفن فتشكل عبئاً ثقيلاً للمدن وللكرة الأرضية برمتها بسبب غاز الميثان الذي يتصاعد من تحلل القمامة ويعمل على رفع درجة حرارة كوكبنا وإحداث التغير المناخي. فالمصدر الأول هو في المزارع والحقول الشاسعة التي تزرع فيها المحاصيل المأكولة، فهناك ملايين الأطنان من الخضروات والفواكه التي تُزرع لا تصل إلى المستهلك بسبب عدم تناسب أشكالها، أو أحجامها، أو ألوانها مع ذوق ورغبات المستهلكين، أي أن هذه التغيرات الشكلية الظاهرية البسيطة في هذه المنتجات الزراعية تُنفر المستهلك وتجعله يعزف عن شرائها، فيكون مصير معظمها إلى مقابر المخلفات. وهذه الممارسات اللامسئولة لا تعني فقط هدر الغذاء، وإنما هو في الوقت نفسه استنزاف بغيظ للموارد الطبيعية والثروات الفطرية الغالية التي استخدمت في الزراعة، من ماء، ووقود، وأسمدة، وتربة، ومبيدات بأنواعها المختلفة، وعلاوة على جهودٍ بشرية ذهبت هباءً منثورا.

 

والمصدر الثاني فهو الهدر الضخم للمواد الغذائية وإنتاج المخلفات على مستوى الأفراد في المنازل، وعلى مستوى المطاعم، والفنادق، والبرادات الكبيرة، وهذه ظاهرة أخذت في التفاقم مع الزمن وزيادة الفجوة بين من ينتج مخلفات الطعام وبين من يحتاج إلى هذه المخلفات لسد جوعه.

 

وقد استيقظتْ مؤخراً منظمات الأمم المتحدة والجمعيات الأهلية المعنية بهذه الظاهرة البيئية والاجتماعية والاقتصادية في كل دول العالم وأَطلقتْ حملة على مستوى الكرة الأرضية برمتها تحت شعار" الحملة الدولية لوقف هدر الطعام ". وقد أَتَتْ هذه الحملة أُكلها فقامت بعض الدول بسن تشريعات بهدف خفض إنتاج مخلفات الطعام والتوقف عن استنزاف هذه الثروة العظيمة. فإيطاليا، وبالتحديد في الرابع من أغسطس من العام الجاري، أَقرتْ تشريعاً خاصاً يهدف إلى خفض المخلفات الغذائية، وتدوير مليون طن من المواد الغذائية سنوياً، وذلك من خلال خفض الضرائب على المطاعم والفنادق وغيرهما في حالة قيامها بتدوير بقايا الطعام، كما قامت فرنسا بسن تشريعٍ مماثل، ولكن فرضت غرامات مالية على كل جهةٍ لا تقوم بتدوير أو إعادة استهلاك مخلفاتها من الطعام، واليوم وعلى جدول أعمال الكونجرس الأمريكي قانون يُطلق عليه "استرجاع المواد الغذائية"، وآمل من دول الخليج ركوب سفينة هذه الحملة ووضع البرامج التنفيذية للحفاظ على هذه الثروة الغذائية الضائعة.

وختاماً فإنني أستطيع أن أُجزم بأن العالم لا يعاني من نقصٍ في الغذاء، ولكن في الحقيقة يعاني من سوء إدارة هذه الموارد الغذائية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق