الثلاثاء، 14 فبراير 2017

مِحْنة باريس


 
المِحْنة العصيبة، والورطة المزمنة التي تعاني منها باريس اليوم هي نفسها ورطة لندن ومدريد في القارة الأوروبية، وهي أيضاً ورطة لوس أنجلوس وشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، وورطة نيودلهي بالهند، وورطة بكين في الصين في آسيا، وورطة نيروبي في كينيا في أفريقيا، كما هي في الوقت نفسه ورطة مدينة المكسيك في المكسيك في قارة أمريكا الجنوبية، ومدينة سيدني في أستراليا، وستكون قريباً ورطة ومحنة المنامة.

 
هذه المحنة العقيمة الصحية والبيئية التي تقاسي منها مدن العالم مازالت دون حلٍ جذري دائم، ومازالت مدن العالم تتخبط في علاجها والتعامل معها بطريقة مستدامة تستأصلها من جذورها وتقضي عليها كلياً.

 
فتلوث الهواء الدائم والمخيم على المدن والناجم عن السيارات والحركة المرورية الكثيفة والمزدحمة بشكلٍ عام التي تصاحب الزيادة المطردة غير المسبوقة للسيارات، يشغل بال العلماء ورجال السياسة ومخططي المدن على حدٍ سواء، وليست لديهم حتى الآن الخطط والبرامج الإستراتيجية طويلة الأمد التي تمكنهم من التخلص منه وبدون رجعة، ويعزى السبب الرئيس في هذا هو تجاهل قضية تلوث الهواء والازدحام المروري في المدن لسنواتٍ طويلة، وعدم إعطائها الأولوية في البرامج التنفيذية للمدن والحكومات، واعتبارها قضية هامشية بسيطة يمكن تأجيلها وغض الطرف عنها إلى أجلٍ غير مسمى، مما جعلها تتفاقم وتستفحل وتنتشر في كل شرايين المدن يوماً بعد يوم فتضرب أطنابها عميقة وتتغلغل بشدة في أرجائها، حتى إنك الآن تقاسي من التلوث والازدحام المروري أينما تذهب وفي كل الأوقات من اليوم والليلة، فالسيارات نجدها من خلفنا، ومن أمامنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا.

 

فالمدن الآن، ومنها باريس على سبيل المثال، وضعت حلولاً عشوائية غير متكاملة وغير مستدامة، وقدمت علاجاً ترقيعياً ومخدراً موضعياً لا ينهي هذه الأزمة الخانقة التي تمر بها منذ عقود. ومن هذه الحلول التجريبية تلك التي شرعت باريس في تنفيذها في 24 يناير من العام الجاري، وهي في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن المدن الأخرى، كما يلي:

أولاً:تقنين مرور وحركة السيارات في قلب العاصمة باريس من أجل خفض الازدحام من جهة، وتقليل نسبة الملوثات من جهةٍ أخرى وخفض احتمال انكشاف السحب الصفراء البنية اللون القاتلة للناس. ومن أمثلة التقنين تبني نظام "الملصقات الملونة" ضد التلوث، بحيث أن لون الملصق على السيارة يسمح لك بالمرور في بعض مناطق المدينة وفي أوقاتٍ محددة من اليوم أو الليل.

ثانياً: منع سيارات الديزل المسجلة بين يناير 1997 وديسمبر 2000 من الدخول في وسط العاصمة، فوقود الديزل يُعد من أشد أنواع الوقود تلويثاً للهواء الجوي وأكثره تهديداً لصحة الناس.

ثالثاً: في الأيام التي ترتفع فيها درجة التلوث، وتظهر السحب المسببة للأمراض والموت المبكر، تكون حافلات النقل العام مجانية لكافة المواطنين، مما يشجعهم إلى عدم استخدام سياراتهم الخاصة وبالتالي خفض أعداد السيارات الملوثة للهواء من الشوارع.

رابعاً: استخدام حافلات النقل العام الكهربائية بدون سائق وبصفة تجريبية بين بعض المحطات في باريس.

خامساً: زيادة المساحات الخاصة بالمشاة، ورفع التسعيرة الخاصة بمواقف السيارات في قلب العاصمة.

 

وفي تقديري فإن الحل المستدام لقضية السيارات المتمثلة في تلوث الهواء والاكتظاظ المروي يكون في تبني وتنفيذ مجموعة من الحلول المتكاملة، تُسهم فيها وتشارك فيها كل السلطات في الدولة، السلطة التنفيذية، والتشريعية، والمجتمع المدني كالجمعيات الأهلية. أما السلطة التنفيذية من وزارات وهيئات، فكل جهة منها عليها التفكير في الحلول التنفيذية الإبداعية التي تقع ضمن اختصاصها ومهماتها، فعلى سبيل المثال، وزارة المواصلات تعنى بتشجيع النقل الجماعي واستخدام السيارات النظيفة التي تعمل بالطاقة المتجددة، ووزارة الطاقة توفر الوقود النظيف غير الملوث للبيئة للسيارات، ووزارة الأشغال تُعجل في بناء وتوسعة الطرق، وإدارة المرور تضع نظاماً سريعاً للتعامل مع حوادث الطرق وتحسين وتسريع الحركة المرورية والتعامل مع السيارات القديمة. ثم تأتي السلطة التشريعية لتضع القوانين التي تصب في تحقيق الأهداف نفسها وتعمل مع المجتمع المدني لرفع وتعزيز الوعي البيئي والصحي والمروري المرتبط بقضية السيارات وبيان مخاطرها على المجتمع برمته.

 

فقضية السيارات معقدة جداً ومتشابكة ومتعددة الجوانب والأبعاد ويجب عدم الاستهانة بها وتبسيطها، ولذلك فإن حلها يحتاج إلى جهودٍ جماعية مشتركة ومتناسقة، وخططٍ فاعلة وقابلة للتنفيذ. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق