الجمعة، 3 فبراير 2017

كيف نستفيد من معاناة اليابان في مجال البيئة؟


 
كُنتُ قبل سنوات في زيارةٍ رسمية إلى اليابان للمشاركة في المؤتمر الياباني العربي حول هموم وشؤون البيئة، وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر قالت وزيرة البيئة اليابانية حينئذٍ وبعباراتٍ صريحة وواضحة لا غموض فيها موجهة كلامها إلى الوزراء البيئة العرب:"لا ترتكبوا الأخطاء التي قُمنا بها في اليابان، واستفيدوا من زلاتنا وهفواتنا"، ثم عرجت في كلمتها على الكوارث البيئية المهلكة التي نزلت على اليابان فقصمت ظهرها وأودت بحياة فلذات أكبادها بين أموتٍ ومرضى، وأفسدت البيئة إلى درجةٍ كبيرة لا يمكن تحملها ولا يمكن تجاهلها أو السكوت عنها.

فاليابان ومنذ صحوتها من آلام الحرب العالمية الثانية وويلاتها وآثارها المدمرة والمهلكة للحرث والنسل والحجر والشجر، وولوجها في مرحلة جديدة من حياتها، إنتهجت سياسة النمو السريع والمطرد والتنمية الاقتصادية المتزايدة دون النظر إلى الأبعاد والجوانب الأخرى المرتبطة بهذا النمو والمصاحبة لهذه العملية، وبخاصة في الجانب البيئي، والبعد المتعلق بحماية ثرواتها الطبيعية وخيراتها الحية وغير الحية من بحارٍ وأنهار وهواءٍ وتربة.

فالمصانع انطلقت بكل حرية وتوسعت بدرجةٍ مشهودة لم يسبق لها مثيل في الساحة اليابانية، وبدون أية قيود، أو ضوابط، أو أنظمة تقنن حركتها، وتوجه مسيرتها، فالقوانين البيئية كانت مغيبة، والأنظمة المتعلقة بحماية البحار والبحيرات ونوعية الهواء والتربة كانت غير ناضجة، أو أنها كانت غير كافية لتهدي العمليات الصناعية سبيل الرشاد، فتجعلها أكثر رفقاً بعناصر البيئة ومكوناتها.

فنتيجة لهذه الحرية المطلقة للمصانع ومحطات توليد الطاقة، انكشفت الكثير من الظواهر الغريبة والخطيرة على البيئة والشعب الياباني إلى حدٍ سواء، وظهرت الأمراض الفتاكة والمزمنة التي أكلت من جسم عناصر البيئة وأسقطت الضحايا البشرية على نطاقٍ واسع وكبير، حتى أصبحت اليابان على المستوى الدولي مضرباً للأمثال لشدة التدهور البيئي الذي حل بها، وتحولت إلى واقع مؤلم تستفيد منه الدول والشعوب في جميع أنحاء العالم.

ومن أكثر الكوارث البيئية وأشدها وطأة على المجتمع الياباني خاصة والمجتمع البشري عامة، الطامة الكبرى التي نزلت على الشعب الياباني في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم وأُطلق عليها "مرض ميناماتا". هذا المرض الغريب والخبيث الذي انكشفت خيوطه العصيبة قبل أكثر من 60 عاماً، ومازال خالداً حتى يومنا هذا يعاني منه جيل بعد جيل، وسيظل هذا المرض العضال في ذاكرة الشعب الياباني حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتتلخص أحداث هذا الكرب العظيم في قيام أحد المصانع بالسماح لعنصر الزئبق السام والخطر في الدخول في خليج ميناماتا، حيث كان هذا العنصر الخبيث يتراكم في جنح الليل وبعيداً عن أنظر البشر في الكائنات البحرية النباتية، ثم ينتقل إلى الكائنات البحرية الحيوانية من الأسماك الصغيرة، ثم الكبيرة، وأخيراً إلى الطيور المائية، والقطط، وفي نهاية السلسلة الغذائية الإنسان الذي كان يعيش على هذه الأسماك. فسكان هذه القرية كانوا يشاهدون أمامه الطيور وهي تسقط صريعة، والقطط وهي تدور حول نفسها فتموت فجأة واحدة، والناس يمرضون ويصيحون من شدة الألم، فكانت هذه المناظر العصيبة تُنسى الوالدةُ رضيعَها، وتُسْقط الحامل حملها من الرعب، فأصبحوا كالسكارى من شدة الهول والفزع الذي حلًّ بهم، وليسوا بسكارى من الخمر، ولكن شدة المعاناة والألم النفسي والجسدي أفقدتهم عقولهم وإدراكهم وإحساسهم.

فهذه الكارثة العقيمة، ومثيلاتها من الحوادث القاسية والمفجعة، جعلت الشعب الياباني يتعلم درساً لا ينساه أبداً، فقامت بعدها بخطواتٍ تنموية عظيمة يشهد لها الجميع، ولكنها كانت تنمية دون تدمير، وإعمار للأرض والبشر دون إفساد أو إهلاك، وبناء للمجتمع دون تشتيت أو تفريق، فالتنمية الاقتصادية سارت جنباً إلى جنب مع التنمية البيئية، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ودون أن يعرقل أحدهما مسيرة الآخر، فوضعت اليابان القوانين والأنظمة البيئية الصارمة والتزمت وطبقت المعايير الخاصة بحماية الهواء والماء والتربة، ففازت بالاثنين التنمية الاقتصادية والتنمية البيئية.

ولكن مع الأسف أن هذه الدروس اليابانية التي تكلمت عنها وزيرة البيئة اليابانية وأكدت على أن نستفيد منها ونتجنب هفواتها، مازال البعض لا يعتبرها مهمة ولا يريد أن يتعلم منها، فيقع في الأخطاء نفسها التي وقعت فيها اليابان، وما نراه اليوم في المدن الصينية والكثير من مدن العالم يؤكد أن البعض لا يريد أن يتعلم، وأتمنى أن لا نكون منهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق