الأحد، 19 نوفمبر 2017

ثقافة التحايل عند الشركات الكبرى


في كل يوم من حياتي أزداد علماً وخبرة، وفي كل يوم أزداد قناعة بأن الشركات الكبرى والشركات العملاقة متعددة الجنسيات لا يهمها رفاهية البشر وأمنهم الصحي وسلامتهم الجسدية أو سلامة وأمن البيئة التي نعيش عليها جميعاً، فالبوصلة التي يضعونها أمامهم تؤشر على اتجاه واحد فقط وهي النمو الكبير، والربح السريع، وجني المال الوفير على حساب كل شيء آخر، مهما كان، فتحقيق هذه الغاية تبرر القيام بأية وسيلة مهما كانت، شرعية أم غير شرعية، عن طرق الحلال أم طرق الحرام.

 

وفي كل يوم أزداد يقيناً وقناعة بأن أسلوب التحايل والخداع والكذب لا يجدي كثيراً، ولا يدوم طويلاً، مهما ابتدعوا من وسائل شيطانية أو تستروا وأخفوا كذبهم، وأحاطوا عليها كومة ثقيلة من السرية والكتمان، فسرعان ما تنكشف الحقائق، وتنجلي الأسرار، وتنفجر الفضائح في وجوههم.

 

وهذه القناعة مبنية على ما أراه أمامي وأشاهده كل يوم من أمثلة واضحة وضوح الشمس على تجذر ثقافة الكذب، وتعمق سلوكيات التحايل وتغلغلها في عروق هذه الشركات عامة.

 

فاليوم أقف أمام مشهدٍ جديدٍ متجدد، يجسد واقعياً قناعتي ويقيني، ففي 26 أكتوبر من العام الجاري قامت السلطات الاتحادية المعنية بالجرائم على المستوى القومي باعتقال ملياردير أمريكي من ولاية أريزونا، كان يُعد قبل اعتقاله من أغنى رجال الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إنه ظهر على صفحة الغلاف لمجلة فوربز(Forbes) المشهورة كأغنى رجال أمريكا وكان ترتيبه السادس في عام 2016. هذا الرجل الذي أودع في السجن الآن اسمه جون كابور(John Kapoor) ومؤسس ومالك لواحدة من أكبر وأنجح شركات صناعة الأدوية على المستوى الدولي(Insys Therapeutics Inc.).

 

فماذا فعل هذا الوجيه المرموق حتى يُعتقل؟ وما هو حجم الذنب الذي ارتكبه والإثم الذي قام به حتى يزج برجلٍ على هذا المستوى في غياهب السجون؟

 

لقد لخص القائم بأعمال النائب العام الأمريكي الأعمال اللاأخلاقية والإجرامية التي قام بها في قائمة الاتهامات الصادرة بحقه في البيان المنشور لوسائل الإعلام في 26 أكتوبر من العام الجاري، حيث قال: "السيد كابور وشركته مُتهمون بتقديم الرشاوى للأطباء، والإفراط في وصف دواء الأفيون الشديد القوة والفاعلية، وتضليل شركات التأمين فقط من أجل الربح".كما جاء في بيان وزارة العدل أن كابور كان "يدير مؤامرة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الربح من خلال تقديم الرشاوى والتحايل للتوزيع غير القانوني لبخاخ الفينتانيل المستخدم لمرضى السرطان".

 

فقد كان هذا التاجر الجشع وزمرته من التنفيذيين الذين يعملون في الشركة والأطباء المتعاونين معه يُسوقون بطرقٍ غير شرعية لدواءٍ يشبه الأفيون ومخصص فقط لتخفيف آلام مرضى السرطان الشديدة والمعروف ببخاخ الفينتانيل(fentanyl) من خلال إنشاء شبكةٍ سريةٍ من الأطباء والصيدليات وتقديم الرشاوى لهم لوصف هذا الدواء المخدر المدمن لأي مريضٍ يشكو من أي نوعٍ من الألم، وتوزيع هذا الدواء المدمن الخطير على أكبر شريحة من الأمريكيين، إضافة إلى تضليل شركات التأمين والتحايل عليهم وتزويدهم بمعلومات خاطئة تجبرهم على تعويض المرضى عن هذه الأدوية، وبذلك فهم كلهم شاركوا في تنفيذ مؤامرة عصيبة واسعة النطاق على الشعب الأمريكي برمته، فحولوه إلى شعبٍ مدمن على هذه الأدوية المخدرة التي تشبه الأفيون، حتى تحول مع الوقت إلى وباءٍ خطير، وآفة مزمنة هددت حياة الملايين من الأمريكيين وقتلت عشرات الآلاف منهم سنوياً إلى درجةٍ لم يشهدها التاريخ الأمريكي من قبل، مما اضطر ترمب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية في 26 أكتوبر بسبب الإدمان على المخدرات عامة والأفيون بشكلٍ خاص.

 

فهذه الإمبراطورية الشامخة التي أسسها رجل الأعمال الأمريكي على ثقافة الكذب والتحايل والتضليل وكسب المال السريع بكل وسيلة من أعلى الهرم إلى أسفله، سُرعان ما انهارت كلياً، وتحطمت إلى أشلاء، وسقطت على الأرض مشلولة لا حركة لها، فقد خسر هذا الرجل ومن معه ماله، وسمعته، وحياته، فقد يُمضي ما تبقى من عمره خلف القضبان وحيداً لا يترحم عليه أحد، ولا يسأل عنه أحد، منبوذاً من الجميع ومن المجتمع برمته.

 

 فهل هناك نتيجة للكذب والتحايل أشد وطأة وتنكيلاً بالإنسان وتجارته وسمعته من هذه الخاتمة السيئة في الدنيا قبل ويلات الآخرة؟ 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق