الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

لماذا اعتذرتْ الخطوط الجوية البريطانية؟


نَقلتْ وسائل الإعلام الغربية، وبالتحديد البريطانية خبراً في 19 أكتوبر من العام الجاري مُلخصه بأن الخطوط البريطانية نشرت بياناً رسمياً تعتذر فيه لأسرة كندية مكونة من امرأة وطفلتها البالغة من العمر سبع سنوات كانوا على متن إحدى طائرات الخطوط البريطانية التي أَقلعتْ من فانكوفر في كندا إلى العاصمة البريطانية لندن. 

 

فماذا حدث في هذه الرحلة؟ وهل هناك أمر جَلل قد وقع؟

ولماذا اضطرت الخطوط الجوية البريطانية أن تشوه سمعتها بيدها، وتزعزع مكانتها الدولية المرموقة بين الخطوط الجوية الأخرى فتُقدم اعتذاراً عاماً أمام الملأ، والذي اطلع عليه الناس في كل أنحاء العالم وتناولته معظم الصحف التي اطلعتُ عليها بشيء من التفصيل والتحليل؟

 

ما وقع في تلك الليلة بسيط في ظاهره السطحي، كبير في فحواه وانعكاساته، فلأول وهلة يظن الإنسان بأن ما حدث على متن هذه الرحلة لا يستحق هذه التغطية الإعلامية المكثفة، وربما لا يصل إلى درجة أن تقوم خطوط دولية معروفة وعريقة في الاعتذار عنه.

 

فقد رَكبتْ امرأة كندية وطفلتها على متن هذه الرحلة، وذهبت مباشرة إلى المقعد المخصص لهما، وبُعيد إقلاع الطائرة من مطار فانكوفر الدولي شاهدت هذه المرأة رتلاً من الحشرات الصغيرة جداً البُنية اللون التي تشبه الصراصير المنزلية ولا يتعدى طولها مليمتراتٍ معدودة، ويُطلق عليها بقة السرير أو "الفَامْبير" ومصاص الدماء، وبعد التدقيق في مصدر هذه الحشرات وموقع تحركاتها، أيقنت هذه المرأة المذعورة بأنها قادمة مباشرة من المقعد الذي أمامها، حيث بدأت تزحف رويداً رويداً إلى مقعدها، فانتقلت أولاً جيوش الحشرات على شاشة التلفاز الموجود أمامها، واختفت وراءها محتمية بها، ثم أخذت تسرح وتمرح وتنزل من أعلى المقعد متجهة إليها مباشرة. وعندئذ لم تستطع السيطرة على شعورها بالخوف والتحكم في إحساس القلق الذي انتابها، فضغطت فوراً على الزر المخصص لنداء المضيفة، حيث جاءت بعد لحظات لمعرفة السبب واستجابة لطلب المسافر، فأشارت بإصبعها إلى موكب الحشرات القادم نحوها، ونبهت إلى انزعاجها الشديد من وجودها أمامها وبين ظهرانيها، فقالت المضيفة إنها لا تتمكن من عمل أي شيء، فلا توجد أية مقاعد شاغرة يمكنها الانتقال إليها، فما كان من هذه المرأة إلا أن استسلمت للأمر الواقع، وحاولت أن تأخذ قسطاً من الراحة والنوم لعلها تنسى أَمْر هذه الحشرات، وفعلاً أخذتها سِنة وغفوة قصيرة واستيقظت بعدها على نداء كابتن الطائرة بالنزول التدريجي إلى مطار هيثرو اللندني وربط الحزام استعداداً للهبوط.

 

ولكن بعد استيقاظها رأتْ بأم عينيها ما كانت تتخوف منه وما تخشى على نفسها، فعندما كشفت عن ساقيها وساق ابنتها الصغيرة، شاهدت البُقع الجلدية الحمراء المنتفخة التي ملأت رجلها وفخذها في كل مكان، مما جعلتها تهرع إلى خدمات الزبائن التابعة للخطوط لتُريهم آثار الجريمة التي تركتها هذه الحشرات أثناء الرحلة، ولكن لم تَلْق آذاناً صاغية، ولم يبد الموظفون تجاوباً معها أو اهتماماً بالواقعة الأليمة التي مرَّت بها والتجربة الموجعة التي خاضتها، فاضطرت إلى فضح الشركة أمام العالم من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي، فنشرت الخبر وصور ابنتها وجسدها المشوه بالاحمرار من عضات بقة السرير في التويتر، وهذا ما ألزم المعنيين في الخطوط البريطانية إلى التحرك سريعاً والاعتذار من خلال بيان رسمي جاء فيه: "نحن على اتصال بالمسافر للاعتذار والتحقيق في القضية. الخطوط البريطانية تشغل أكثر من 280 ألف رحلة سنوياً وحوادث مشاهدة بقة السرير على متن هذه الرحلات نادرة جداً، وبالرغم من ذلك فإننا نراقب باستمرار طائراتنا".

 

فهذه الواقعة التي تبدو صغيرة وبسيطة هي مؤشر عملي واضح على ظاهرة عامة وقضية دولية كبيرة ومعقدة هي التنوع الحيوي، وغزو أو استيطان بعض الكائنات الحية النباتية أو الحيوانية التي تعيش في البر أو البحر في بيئات تعتبر غريبة عليها وأجنبية بالنسبة لها، فلم تولد فيها ولم تتكاثر عليها، مما يجعلها في بعض الحالات تسيطر على الكائنات الحية الأخرى فتقضى عليها يوماً بعد يوم وتهدد النظام البيئي برمته، كما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني منذ عقود من غزو سمكة الكارب الآسيوية لنهر ميسيسيبي والبحيرات العظمى والقضاء على أسماكها التجارية الاقتصادية.

 

فبقة السرير هذه يجب الحذر منها كثيراً فحجمها صغير ولها منقار حاد وطويل نسبياً يخترق جدار الجلد كالإبرة، فتفرز ملوثات تخدر الجلد، ثم تعضك وتتلذذ بامتصاص دمك طوال الوقت وأنت لا تدري ولا تحس بوجودها حتى تشبع من وجبتها، ثم بعد فترة من الزمن تشاهد الاحمرار الشديد والملفت للنظر على جلدك. وهذه الحشرة المؤذية الطفيلية تعودت على السفر مجاناً دون الحاجة إلى تذكرة سفر، أو جواز تنتقل به من دولة إلى أخرى، كما حصل في طائرة الخطوط البريطانية، فهي تدخل في أية قطعة من أدواتك ومعداتك، سواء أكانت حقيبة السفر، أو الملابس، أو الأحذية، وتنتقل معك من الفندق أو المطعم وأنت لا تعلم بوجودها حتى تصل على منزلك فتسكن معك وتستوطن في مخدة النوم، أو البطانية، أو الألحفة والوسائد القطنية، وهناك تبدأ بتكوين أسرة والتكاثر بأعداد مهولة.

 

فنصيحتي إلى جميع المسافرين هي التأكد أن لا تُحضر معك إلى وطنك ومنزلك وأسرتك مفاجأة غير سارة، وأن لا تَحمل معك وأنت لا تعلم ضيفاً ثقيلاً يُنْغص عليك حياتك.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق