السبت، 15 مايو 2021

معركة رفع براءات الاختراع للقاحات


كتَبَ السيناتور الأمريكي لبيرني ساندرز(Bernie Sanders) المرشح السابق للرئاسة الأمريكية في صحيفة الجارديان البريطانية في الثالث من مايو 2021 مقالاً تحت عنوان: "شركات الأدوية الكبرى لا تريد توسعة برنامج العناية الصحية، علينا أن نواجههم". ففي هذا المقال يؤكد عضو مجلس الشيوخ المعاناة والصراع الطويل الذي يخوضونه مع شركات الأدوية التي تبتز المجتمع والشعب الأمريكي من خلال التصدي لبرنامج العناية الصحية(Medicare) وعدم تجاوبها في خفض أسعار الأدوية والعقاقير بشكلٍ عام لتجنب تقليل أرباحها الطائلة وثرواتها العظيمة، فهذه الشركات لها نفوذ غير عادي في العاصمة واشنطن، بل وإن جماعات الضغط التي تعمل من أجلها تُعد الأكبر والأكثر فاعلية وقوة وتأثيراً على رجال النفوذ والسياسة والتشريع، ومن أجل ذلك تنفق الملايين سنوياً لنيل دعم رجال الكونجرس عامة والمؤثرين على القرار في البيت الأبيض. فعلى سبيل المثال، صرفت شركات الأدوية 4.7 بليون دولار في الفترة من 1999 إلى 2018 على جماعات الضغط أو المعروفين باللوبي، أي قرابة 233 مليون دولار سنوياً.

 

ولذلك فمواجهة شركات الأدوية في الولايات المتحدة الأمريكية في أية قرارات تعمل ضدها ولا تصب في تحقيق مصالحها الاستراتيجية العليا المتمثلة في الربح السريع والوفير، تعني أن ينطح الإنسان برأسه الصخر الأصم والصلب، فلن يتمكن إلا بجهود موازية لقوة هذه الشركات من التغلب عليها وإرضاخها رغماً عنها.

 

واليوم الرئيس الأمريكي بايدن يدخل معركة جديدة، فيواجه مثل هذا التحدي العصيب، كما واجه رئيسه الأسبق أوباما هؤلاء الشركات المتنفذة الكبرى عندما طرح برنامجه حول الرعاية الصحية، حيث إن بايدن دعم الاقتراح الخاص بالرفع المؤقت لبراءات الاختراع، ورفع الحماية عن حقوق الملكية الفكرية عن لقاحات مرض كوفيد_19. فقد جاء على لسان المندوبة التجارية للولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية، كاثرين تاي(Katherine Tai)، عندما قالت بأن:" الظروف غير العادية لوباء كورونا يستدعي إجراءات غير عادية"، كما أفادت بأن الرئيس بايدن يدعم ويساند فكرة رفع براءات الاختراع عن اللقاحات بهدف زيادة أعداد الجرعات على المستوى الدولي وحماية البشر من هذا الوباء.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سينجح بايدن في مساعيه لرفع براءات الاختراع عن لقاحات فيروس كورونا وتوفير أكبر جرعة ممكنة لعامة الناس حول العالم؟

 

فالإجابة عن هذا السؤال تأتي من الفريق المساند لمقترح بايدن، وفي المقابل من الفريق المعارض، والأقوى سياسياً واقتصادياً ونفوذاً هو الذي ستكون له الغلبة والفوز.

 

أما الفريق المدافع عن مقترح بايدن فهم من الداخل ومن الخارج. فمن الداخل الحزب الديمقراطي ومن بعض المسؤولين عن حماية صحة المواطن الأمريكي، ومنهم الطبيب المعروف والمستشار الرئيس لبايدن، أنتوني فاوتشي، حيث قال حسب ما جاء في صحيفة بوليتيكو في السابع من مايو :"أنا لستُ ضد أي شيء يُسرع من توزيع اللقاح إلى الدول النامية، وأنا أشعر بشدة بأن علينا واجب أخلاقي كأمة غنية".

وأما من الخارج فهم جميعاً من الدول الفقيرة النامية التي تمد يدها للحصول على جرعات من هذه اللقاحات والتي ليس لها النفوذ القوي على مسرح الأحداث الدولية وقرارات المنظمات الأممية، إضافة إلى منظمة الصحة العالمية التي وافقت على المقترح الأمريكي، وصرح بذلك المدير العام للمنظمة قائلاً: "أعلم بأن هذا ليس بالعمل السهل سياسياً، ولذلك أنا أُقدر كثيراً قيادة الولايات المتحدة، وأحث باقي الدول على الموافقة".

وفي المقابل فإن المقاومة والمعارضة الداخلية والخارجية كانت شرسة وواضحة. أما في الداخل فإن شركات الأدوية أثارت ردة فعل قوية وغاضبة وحذرت بأنها استثمرت الملايين من أجل تطوير هذه اللقاحات، وأنها تتوقع التربح منها من أجل المزيد من الإبداع والابتكار في المستقبل والعمل على تطوير الجيل الثاني والثالث من هذه اللقاحات، كما أكدوا بأن مثل هذه المقترحات تقتل الإبداع والتطور والنمو ولا تحفز ولا تدفع نحو المزيد من الاستثمار، حسب المقال المنشور في صحيفة واشنطن إجزمينر(Washington Examiner) في السابع من مايو تحت عنوان: "شركات الأدوية تحذر بأن رفع بايدن لبراءات الاختراع يؤثر على إنتاج اللقاح".

وردة الفعل هذه انعكست مباشرة على سوق الأسهم حيث انخفضت أسهم شركات إنتاج اللقاح ونزلت قيمتها السوقية بنحو 30 بليون دولار، حسب المقال المنشور في البلومبرج في السابع من مايو. وأما في الخارج فقد هددت "جمعية شركات أبحاث الأدوية" في ألمانيا قائلة بأن :"المصنعين للقاحات لن يكون لديهم الحافز بعد هذا الاقتراح الأمريكي للمشاركة في جعل اللقاحات متوافرة عالمياً بالسرعة الممكنة".

ومن جانب آخر فإن رد حكومات الدول الصناعية المتقدمة لم يقف بجانب الرئيس بايدن. فقد نشرت صحيفة الفايننشال تايمس مقالاً في التاسع من مايو في تحت عنوان: "قادة الاتحاد الأوروبي يواجهون إدارة بايدن حول دعواتها لرفع براءات الاختراع للقاح كوفيد_19 "، حيث أفاد المقال بأن بعض القادة الأوروبيين يتبعون مدخلاً آخر لمساعدة الدول النامية، فيدْعُون أمريكا إلى التصدير المباشر لهذه اللقاحات. والرد الصريح المباشر جاء أولاً من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد قمة قادة الاتحاد الأوروبي في مدينة بورتو البرتغالية في الثامن من مايو قائلة :"لا أظن بأن رفع حق البراءات هو الحل لمواجهة توزيع اللقاح للناس"، وأضافت :"إن ما نحتاج إليه هو ابتكار وإبداع الشركات، ولهذا نحتاج إلى حماية البراءات"، كما أن الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون أدلى بتصريحات مشابهة قائلاً بأنني: "أدعو بكل وضوح الولايات المتحدة الأمريكية إلى وقف الحظر على التصدير ليس فقط للقاحات، ولكن على مكونات هذه اللقاحات". كذلك قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل بأن رفع براءات الاختراع ليس هو الرصاصة السحرية للدول الفقيرة، والاتحاد مستعد لمناقشة هذه القضية مع أمريكا، كما قال رئيس وزراء هولندا مارك روته(Mark Rutte) بأن هناك تردداً عاماً من القادة لدعم الاقتراح الأمريكي. وأما في الجهة الثانية من الكرة الأرضية، فقد جاءت ردة الفعل الياباني، حسب المقال المنشور في صحيفة اليابان تايمس في الثامن مايو تحت عنوان: "شركات الأدوية في اليابان تعارض رفع الولايات المتحدة الأمريكية لبراءات اختراع اللقاحات"، فقد أعلنت "جمعية مصنعي الأدوية" في السابع من مايو عن معارضتها لدعم البيت الأبيض للرفع المؤقت لبراءات الاختراع وحقوق الملكية عن لقاحات فيروس كورونا، كما أنها قالت بأن الرفع لا يعني بالضرورة ضمان جودة اللقاح كما هي عليها الآن، فهي تتخوف من انتشار اللقاح ذي النوعية الرديئة التي تضر أكثر مما تنفع.

والآن لمن تكون الغلبة في هذه المعركة؟

فعندما أنظر إلى الجهات الداعمة لبايدن وأقارنها بالجهات المعارضة، فإنني أرى وبكل وضوح بأن كفة المعارضين ستكون هي الراجحة وهي القوية، والتي تتمثل في شركات الأدوية العملاقة المتنفذة من جهة وحكومات الدول الأوروبية من جهة أخرى. كما أن هناك عوامل أخرى تشير لي بأن المقترح لن يرى النور في نهاية المطاف. ومن هذه المؤشرات أن هذا المقترح سيناقش في منظمة التجارة العالمية التي بها أكثر من 170 عضواً، والمفاوضات والقرارات عادة في المنظمات الأممية تكون معقدة، وبطيئة، وتستغرق وقتاً طويلاً. فقد ذكرت مديرة المنظمة نجوزي أوكونجو إويالا(Ngozi Okonjo-Iweala) في العاشر من مايو، أنها تأمل التوصل لحل مشكلة رفع براءات لقاحات كوفيد-19 بحلول ديسمبر القادم، كما تأمل أن تتوافق المباحثات حول هذه القضية الشائكة.

ولو فرضنا بأنه بعد المفاوضات وافقت المنظمة على رفع براءات الاختراع، فالعملية بعد ذلك ستكون محفوفة بالشوك، وشاقة، ومليئة بالصعوبات والعراقيل والمماطلات التي تضعها الشركات التي تمتلك هذه البراءات، وتمتلك الأسرار الدقيقة والمعقدة لإنتاج اللقاح، وبخاصة اللقاح الجديد تقنياً وهو إم آر إن أيه( mRNA)، إضافة إلى مشكلات أخرى تتمثل في وجود الخبراء والفنيين وتمويل وبناء المصنع على المستوى المطلوب فنياً وتقنياً، والحصول على المواد الخام للإنتاج ومكونات اللقاح المختلفة والمتعددة التي قد تصل إلى أكثر من مائة مُكون موجودين عند عدة شركات مختلفة، وفي دول مختلفة أيضاً.

وخلاصة القول فإن براءات الاختراع وحق حماية الملكية الفكرية للمنتجات بشكلٍ عام، تُعتبر من أهم عوامل نجاح الشركات الكبيرة والعمود الرئيس لتحقيق الأرباح الطائلة، ولذلك لن تُفرط في هذا الحق مهما كان الثمن، وستظل تحارب وتستخدم كل الوسائل من أجل الحفاظ عليه.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق