السبت، 29 مايو 2021

البحث عن الذهب الجديد


سباق الدول الصناعية الكبرى على موارد وثروات الأرض والبحر أينما كانت لا ينتهي أبداً، فمن ينتصر في هذا السباق ستكون له السلطة والهيمنة على القرار الدولي، وينال القوة والنفوذ السياسي والأمني، وسيحظى بالسبق في الإنتاج والتصنيع للمنتجات الاستهلاكية التي يحتاج إليها البشر، وستكون له الريادة والتفوق التقني والعلمي. ومن أجل الوصول أولاً إلى خط النهاية، افتعلت هذه الدول في بعض الأحيان معارك وحروب ضارية قتلت البشر، ودمرت الشجر والحجر، وغزت واحتلت دولاً للسيطرة على ثرواتها وخيراتها، ثم إقامة وإنشاء مصانعها عليها وفي دولها لتحقق الازدهار والنمو لشعوبها.

 

فقصة الاقتتال على النفط، أو الذهب الأسود، منذ أن تم استخراجه من باطن الأرض أو البحر، والجري بكل شدة وقوة للسيطرة على منابعه في كل أنحاء العالم معروفة للجميع ولا داعي لتكرارها.

 

واليوم نقف أمام مشهد مشابه، وحالة لا تختلف كثيراً عن المشاهد السابقة في الاستحواذ على الثروات والموارد الطبيعية، ولكن ليس مع الذهب، أو النفط، أو الغاز الطبيعي، ولكن مع عنصر فلزي بسيط جداً هو "الليثيوم"، أو الذي أُطلق عليه بالذهب الأبيض. فالليثيوم عنصر خفيف الوزن، ولونه أبيض فضي، ويمكن تخزين الطاقة فيه وشحنه عدة مرات، وتم اكتشافه منذ عقود طويلة من الزمن، ولكن ظل مهمشاً لم يسأل عنه أحد، أو يهتم به طوال تلك السنوات الماضة، فما الذي جعل الاهتمام بهذا العنصر يأتي فجأة؟ وما الذي جعل الدول وكبار المستثمرين يضعون أموالهم للسيطرة على مصادر هذا الذهب الأبيض ووضع أموالهم في التنقيب عنه واستخراجه من باطن الأرض، أو من المياه الجوفية المالحة؟ وما الذي جعل السباق على هذا العنصر بين الدول والشركات والمصانع يبدأ الآن؟

 

ويرجع السبب في هذا التهافت الدولي نحو الليثيوم هو التغيرات والتطورات الدولية والإقليمية الجذرية في مجال السيارات عامة، وبالتحديد في قطاع السيارات الكهربائية، حيث رسمت معظم دول العالم المصنعة للسيارات سياسة عامة ملخصها نقل السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري، وبالتحديد الجازولين والديزل إلى مثواها الأخير بشكلٍ دائم خلال العقود القليلة القادمة، والاعتماد على مصادر الوقود النظيفة والمتجددة لسيارات المستقبل، إضافة إلى الاستثمارات المالية الضخمة التي خصصتها شركات صناعة السيارات الكبرى لإنتاج أنواع كثيرة من السيارات الكهربائية، وفي الوقت نفسه نبذ سيارات الجازولين والديزل والتخلص منها كلياً وإلى الأبد وبدون رجعة بحلول عام 2030.

 

وهذا يعني أن العالم سيتحول كلياً وبشكلٍ تدريجي متسارع من سيارات الاحتراق الداخلي التي تعمل بالجازولين، أو الديزل، أو الغاز الطبيعي إلى السيارات التي تشتغل بالبطاريات التي تشحن بالطاقة الكهربائية.

 

ولكي ينجح هذا الانقلاب في عالم السيارات، ولكي يكون الانقلاب في استبدال سيارات الجازولين والديزل مستداماً، فإن على دول العالم وشركات إنتاج السيارات تأمين كل مستلزمات السيارات الكهربائية الأساسية، وتوفير كل احتياجات وضروريات مثل هذه السيارات، والعمل من الآن على الاستحواذ والسيطرة على المواد الخام التي تدخل في تصنيع مكونات السيارات الكهربائية، والتي تعتبر البطارية هي حجر الأساس، والمكون الرئيس الذي يحقق التحول المربح والمستدام إلى السيارات الكهربائية، وفي الوقت نفسه يشجع المستثمرين والمستهلكين على تبنيها، والدخول فيها، واستخدامها.

 

ويعتبر عنصر الليثيوم عمود بناء هذه البطاريات التي تشغل وتحرك السيارات الكهربائية، فلا نجاح، ولا تطور، ولا استدامة لهذه السيارات إلا بتوفير عنصر الليثيوم، هذا الذهب الأبيض، وعلى نطاقٍ واسع، وبكميات كبيرة تكفي لإنتاج الملايين من السيارات حول العالم، وبأسعار رخيصة تخفض من السعر النهائي للسيارات، وتشجع المستهلكين على شرائها.

 

ولذلك بدأ منذ سنوات قليلة السباق المحموم على اكتشاف هذا العنصر، والبحث عنه في كل دول العالم، والعمل على التنقيب عنه واستخراجه من المناجم من باطن الأرض، وقد كتبت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية تحقيقاً تؤكد فيه هذا الواقع في السابع من مايو 2021 تحت عنوان: "الجري نحو ذهب الليثيوم: السباق إلى توفير الطاقة للسيارات الكهربائية".

 

وهذا الذهب الجديد موجود بوفرة في بعض دول العالم، منها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في شمال ولاية نيفادا الصحراوية في منطقة سيلفر بيك(Silver Peak)، حيث يوجد أكبر منجم لليثيوم أُطلق عليه إسم مشروع ليثيم أمريكاز(Lithium Americas)، وتقدر كمية الليثيوم في هذا الموقع بنحو 3.9 بليون دولار، ثم توجد أملاح الليثيوم في رمال الصحراء التي تحيط بالبحيرة المعروفة ببحر سالتان(Salton Sea) في ولاية كاليفورنيا، إضافة إلى مواقع أصغر في ولاية وأوريجن، وتنيسي، وأركنساس، ونورث كارولينا، ونورث داكوتا. كما يوجد هذا الذهب الأبيض في دول أخرى مثل بوليفيا، وتشيلي، والأرجنتين، إضافة على أستراليا والصين.

 

ونظراً لهذا الطلب المتزايد سنوياً على الليثيوم، فقد انتعشت سوق تدوير وإعادة تصنيعه من المخلفات التي تحتوي عليه، مثل البطاريات المستعملة القديمة وبعض الأجهزة الإلكترونية، حسب ما ورد في مجلة "فوربس" في المقال المنشور في الثامن من مايو من العام الجاري تحت عنوان: "الشريك المؤسس لتيسلا ينقب عن الثروات في مناطق التخلص من البطاريات المستعملة".

 

والآن أخوف ما أخاف في ظل هذا السباق الماراثوني، والتنافس الشديد بين دول العالم لكسب الريادة، والتفوق، والأسبقية في إنتاج هذا المعدن الثمين، هو ارتكاب أخطاء الماضي في حق البيئة وصحة الإنسان، وهي التلوث البيئي الناجم عن عمليات استخراج الليثيوم، وفصله، وتنقيته. فتُذكرني هذه الحالة التي نعيشها اليوم بالماضي المؤلم والمرير الذي عانت منها البشرية لسنوات طويلة بسبب عمليات التنجيم عن المعادن بشكلٍ عام في كل أنحاء العالم. ومن أمثلة هذه المعاناة التي أصبحت الآن منقوشة في كتب التاريخ البيئي، ومحفورة في ذاكرة الشعب الياباني خاصة، وشعوب العالم أجمع، هي كارثة إتاي_إتاي التي تعني "إنه مؤلم_إنه مؤلم"، والتي بدأ زرع بذورها الخبيثة في البيئة اليابانية في مطلع القرن التاسع عشر. ففي محافظة توياما، حيث يوجد واحد من أكبر المناجم والمعروف بمنجم كاميوكا، كانت شركات التعدين تبحث عن الذهب والعناصر الثمينة الأخرى لتشغيل المصانع اليابانية، وهذه العمليات أفرزت العديد من الملوثات السامة كالكادميوم الذي كان يصرف بدون معالجة في نهر جينزو المستخدم ماؤه لزراعة الأرز. وهناك بدأ هذا السم في التراكم في البيئة النهرية حتى وصل إلى الإنسان عن طريق ري حقول الأرز من هذا الماء الملوث وأكل الأسماك المسمومة بالكادميوم، فوقعت واحدة من أشد الكروب البيئية الصحية نكالاً بالبشرية جمعاء.

 

فمثل هذه الكوارث من الممكن أن تتكرر الآن مع الاستعجال والسباق غير المتبصر والسريع في عمليات إنتاج الليثيوم والعناصر الأخرى التي نحتاج إليها لإنتاج سيارات كهربائية غير ملوثة للبيئة، فهل يحافظ الإنسان من جهة على البيئة عند إنتاجه واستعماله لهذه السيارات الكهربائية، ولكن في الوقت نفسه يدمر من جهة أخرى مكونات البيئة ويفسد صحتها في مواقع ثانية؟ وما الجدوى من حماية البيئة في بعض المناطق وإفسادها في منطقة أخرى؟

فهل يكرر الإنسان أخطاء الماضي، أم يعْتَبر منها؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق