الأربعاء، 26 مايو 2021

بين قصة أدوية الإيدز ولقاح كورونا

الدول الصناعية المتقدمة الكبرى ممثلة في شركاتها العملاقة المتنفذة تكشف عن ممارساتها اللاإنسانية بين الحين والآخر، وتُذكرنا بين الحين والآخر بأن حكومات وشركات هذه الدول الفاحشة الثراء لا ترقب في شعوب الدول النامية الفقيرة والمستضعفة، بل وفي شعوبها على حدٍ سواء، إلاَّ ولا وذمة، فكل ما يهمها هو الربح السريع والكبير على حساب كل شيء آخر، سواء أكان ذلك صحة البشر، أو صحة البيئة وسلامتها.

 

وسأُقدم لكم مثالاً واحداً فقط لأبين لكم هذا الوجه القبيح وغير الإنساني لهذه الدول وشركاتها المتحكمة في قراراتها، وهذا المثال هو قصة الإنسان في مواجهة فيروس نقص المناعة البشرية، إش آي في(HIV) المسبب لمرض نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)( AIDS)، مقارنة بقصتنا وواقعنا اليوم مع لقاح فيروس كورونا(SARS-CoV-2) المسبب لمرض كوفيد_19.

 

وفي الحقيقة عند دراستي للحالتين، وجدتُ تطابقاً مشهوداً وكبيراً بينهما، فمسلسل الأحداث والمشاهد التي وقعت عند نزول وباء مرض الإيدز على البشرية من ناحية تفضيل تقديم العلاج لشعوب الدول الغنية والمتقدمة، وإعطائهم الأولية في الحصول على الأدوية التي تم تطويرها للقضاء على المرض، هي نفسها تقع الآن، وأُشاهدها أمامي رأي العين بالنسبة للقاحات التي تم تطويرها لمكافحة فيروس كورونا وعلاج المرض الناجم عنه، وتوجيه النسبة الكبرى من جرعات هذه اللقاحات نحو الدول الصناعية الثرية المتطورة.

أما بالنسبة لوباء الإيدز، فقد تم تسجيل أول حالة رسمية في الخامس من يونيو 1981 في ولاية كاليفورنيا ثم نيويورك، وتم وصفه بأنها مرض غريب وجديد لم يعرفه الإنسان من قبل، ثم في عام 1983 اكتشف الفيروس المسبب لهذا المرض والذي يؤدي إلى تلف وقتل جهاز المناعة، حيث بلغت العدوى وأعداد المصابين في عام 1987 نحو 32 ألف في أمريكا وحدها، توفى نصفهم، وفي مطلع عام 1990 تم تصنيف الإيدز المرض المسؤول الأول عن قتل شباب أمريكا. ونظراً لهذه الحالة العصيبة التي نزلت على الولايات المتحدة الأمريكية خاصة وانتشار المرض فيها كانتشار النار في الهشيم، فقد شمَّرت الحكومة وشركات الأدوية عن ساعديها لتطوير الدواء المناسب لعلاج هذا الوباء الذي يقضي على فلذة أكباد أمريكا، حتى توصلت الشركات إلى تطوير دواء واحد فقط في مارس 1987، وهو أول علاج معتمد للإيدز تحت اسم زيدوفودين(zidovudine)، حيث نجح الدواء في إيقاف نحو الفيروس ومنع تكاثره، وتم بيعه تحت اسم تجاري هو رتروفير(Retrovir)، وفي عام 1995 اعتمدت إدارة الغذاء والدواء عقاراً جديداً هو (saquinavir)، ثم في عام 1996 تم تطوير عقار آخر، حيث اعتمدت فكرة إعطاء المريض خليط من عدة أدوية في الوقت نفسه. وهكذا استمرت عملية تطوير الأدوية بسرعة متناهية وكبيرة في الدول الغربية، وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية، وانعكست هذه التطورات في أدوية الإيدز على أعداد المصابين والوفيات من المرض، حيث انخفضت نسبة الوفيات 75% في الفترة من 1994 إلى 1997، ومنذ عام 1997 حتى يومنا هذا وافقت إدارة الغذاء والدواء على أكثر من 50 نوعاً من الأدوية والعلاج ضد الفيروس المسبب للإيدز.

ولكن الطامة الكبرى التي وقعت أن هذه العلاجات وهذه الأدوية، وهي في مهدها كانت توزع وتسوق فقط في الدول الغنية والمتقدمة التي تتمكن من تحمل كلفة العلاج التي تراوحت بين 16500 إلى 21 ألف دولار للفرد في السنة، أي من نحو 6100 إلى 7800 دينار بحريني، أي أن العلاج لم يكن متوافراً للدول الفقيرة والنامية المستضعفة التي كان وطء المرض عليها أشد تنكيلاً وقتلاً، رغم استغاثة الشعوب المستمرة لسنوات طويلة، ونداءات الحكومات المتكررة في كافة المحافل الدولية للحصول على هذه الأدوية وخفض أسعارها.

والدول التي ضربها الإيدز ضربة قاسية كانت بالتحديد دول قارة أفريقيا مثل زيمبابوي، ناميبيا، كاميرون، أثيوبيا، كينيا، روندا، نيجيريا، تنزانيا، وبتسوانا، والتي تراوح مجموع أعداد المصابين فيها بين 34 و 46 مليون مصاب. كما أن هذه القارة الفقيرة كانت توجد فيها في عام 2003 أكثر من 80% من حالات الوفيات، فعلى سبيل المثال، أوغندا عانت من قرابة مليونين مصاب، وألف واحد منهم فقط حصلوا على الأدوية ضد الفيروس، ودولة جنوب أفريقيا، كان عدد المصابين يقدر بنحو 3 ملايين، وأقل من 2000 كانوا محظوظين لتلقي الأدوية، حيث كانت نسبة الإصابات قرابة 16 ألف يومياً.

ومع كل هذه الكُرُوب التي وقعت على هذه الدول والأضرار الصحية الجسيمة التي لحقت بشعوب هذه الدول، ورغم ارتفاع أعداد المصابين والوفيات وسقوط الضحايا البشرية من أطفال وشباب ونساء بشكلٍ يومي في هذه الدول الفقيرة، ورغم وجود العلاج للمرض، إلا أن شركات الأدوية أصرت على عدم خفض الأسعار، ورفضت كل الضغوط عليها لإعطاء الرخصة للسماح للدول النامية لإنتاج هذه الأدوية عندها لتخفيف المعاناة عن شعوبها بحجة حقوق الملكية وبراءات الاختراع. وفي الوقت نفسه، الحكومات التي تعمل فيها هذه الشركات، وقفت صامتة تتفرج، ولم تحرك ساكناً لإنقاذ البشر من شر هذا الوباء العظيم وحماية صحة الإنسان من الموت المحتوم. وهكذا، مع تعنت الغرب وعدم اهتمامه بأرواح البشر، استمر سقوط الضحايا البشرية في الدول النامية الفقيرة أكثر من عشرين عاماً منذ اكتشاف المرض وتحت أعين ومسمع الدول الصناعية الثرية المتقدمة.

 

ولم تتغير معاناة الفقراء في الدول المحتاجة للعلاج إلا بعد قرابة عقدين عصيبين طويلين من الزمن، وبالتحديد بعد الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة الدولية الذي عقد في الدوحة في 20 نوفمبر 2001، حيث وافقت المنظمة في إعلان الدوحة وتحت بند "علاقة التجارة بحقوق الملكية الفكرية"(Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights) على الرفع المؤقت لحق الملكية وإعطاء الرخصة لبعض الدول النامية من إنتاج أدوية الإيدز. وجدير بالذكر بأن الشركة الهندية المعروفة كيبلا(Cipla)، أنتجت الدواء بسعر تقريباً 350 دولاراً للفرد في السنة، أي نحو 130 ديناراً، وقارنْ الآن هذا السعر مع سعر الشركات الأمريكية التي بلغت معدل أكثر من 7000 دينار للفرد في السنة، فكم كانت أرباحهم من بيع هذه الأدوية؟!

وبعد أن قرأتَ مشاهد ومراحل تطوير أدوية الإيدز وأنماط توزيعها على الدول، أُنظر عن كثب ماذا يحدث الآن للقاح مرض كورونا، فالدول الصناعية والغنية هي التي لقَّحت شعوبها أولاً وحصنَّتهم من المرض، في حين أن الدول الفقيرة والنامية تنتظر دورها، كما أن شركات الأدوية نفسها ترفض مرة ثانية التنازل عن حقوق الملكية وبراءات اختراع اللقاحات حتى لا تنخفض أرباحها، فتمانع كلياً السماح لشركات الدول النامية من إنتاج اللقاح في دولها، والآن من جديد يُرفع طلب من الدول النامية إلى منظمة التجارة العالمية للموافقة على السماح لبعض الدول النامية من صناعة اللقاح. وجدير بالذكر فإن أرباح شركات إنتاج اللقاح ضد فيروس كورونا تتضاعف وتتضخم يوماً بعد يوم، حسب المقال بعنوان:"أرباح لقاح كوفيد تصل إلى الميارات لما لا يقل عن تسع شركات جديدة للقاح"، والمنشور في المحطة الإخبارية سي إن إن في 22 مايو والمستخلص من "قائمة فوربس للأغنياء"، مثل شركة موديرنا، وبيونتك، وفايزر، فهذه الأرباح الفاحشة التي تحققها هذه الشركات تؤكد احتكارها لهذه اللقاحات وبيعها بأي سعر تشاء، وكل ذلك على حساب صحة البشرية، وبخاصة في الدول الفقيرة.

فهل تنجح الدول النامية هذه المرة أيضاً في رفع الغطاء عن براءات الإختراح للقاح كورونا كما فعلت بالنسبة لأدوية الإيدز بعد سنوات طويلة من معاناة المرضى الفقراء؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق