الأربعاء، 5 مايو 2021

صرف مواد مشعة عمداً إلى البحر!

بالرغم من أن كارثة فوكوشيما النووية وقعت في 11 مارس 2011، أي قبل أكثر من عشر سنوات، إلا أن تداعياتها لم تنته بعد، وفي تقديري لن تنتهي أبداً. والسبب الذي يدعوني إلى عدم التفاؤل هو أن هذه الطامة الكبرى التي لم تنزل على اليابان فحسب، وإنما بلغت انعكاساتها على كل دول وشعوب العالم، انبعثت منها تسربات لمواد مشعة، فانتقلت هذه الملوثات السامة المشعة إلى كافة مكونات البيئة من ماء، وهواء، وتربة، وحياة فطرية نباتية وحيوانية، وبلغت مداها إلى الإنسان، وإلى مناطق واسعة وبعيدة جداً من موقع الكارثة في اليابان، والبعض من هذه المواد المشعة سيستمر في إطلاقه للإشعاع لسنوات طويلة جداً تصل إلى آلاف السنين.

 

وسأُقدم لكم بعض الحقائق حول الارتفاع الشديد في تركيز المواد المشعة في المواد الغذائية في اليابان وبعض دول العالم بعد نزول هذا الكرب العظيم بعدة أشهر. ففي سمك الأنشوبي المعروف(anchovy) وصل التركيز إلى 3 بكريل(becquerel) من السيزيم-137 في الكيلوجرام من السمك، وفي سمك اللانس(lance) وصل التركيز إلى مستويات مرتفعة جداً بلغت 12500. وفي بعض الخضروات وصل إلى 82 ألف بكريل، علماً بأن نصف حياة السيزيم 30 سنة، أي يحتاج إلى ثلاثين عاماً ليتحلل نصفه فيفقد نصف قدرته ونشاطه الإشعاعي، كما أن له خاصية التراكم في السلسلة الغذائية فيبقى فيها مئات السنين. كذلك وصل تركيز الأيودين المشع في سمك اللانس إلى 4080 بكريل في الكيلوجرام، وفي بعض الخضروات، مثل السبانخ ارتفع إلى 54 ألف بكريل من الأيودين في الكيلوجرام من السبانخ، وفي الحليب 5250، وفي مياه الشرب وصل التركيز إلى 210 بكريل من الأيودين المشع في الكيلوجرام من ماء الحنفية.

واليوم، أفاد التقرير المنشور في 21 أبريل من العام الجاري بأن الحكومة اليابانية منعت شحنة أسماك من نوع روك فيش الأسود(black rockfish)من منطقة فوكوشيما البحرية للدخول في الأسواق لاحتوائها على نسبٍ مرتفعةٍ من الإشعاع، حيث بلغت 270 بكريل من السيزيوم المشع في الكيلوجرام من السمك، علماً بأن الموصفات هي 50 فقط، مما يؤكد أن الفساد والضرر الذي وقع قبل أكثر من عشر سنوات مازال قائماً ومتجذراً في أعماق مكونات بيئتنا والحياة الفطرية النباتية والحيوانية.

وعلاوة على ذلك، فإن هذه الملوثات المشعة القاتلة لم تبق في الحدود الجغرافية لليابان، وإنما وصلت عن طريق الأوساط البيئية المرتبطة بعضها ببعض إلى حدود الدول القريبة من اليابان علاوة على الحدود البعيدة جداً كالقارة الأوروبية، وكندا، والمدن الساحلية الغربية في الولايات المتحدة الأمريكية مثل ولاية كاليفورنيا وولاية واشنطن، فقد أكدت دراسة منشورة في مجلة علوم وتقنية المياه في مارس 2012 عن ارتفاع نسبة الإشعاع في مياه الأمطار التي سقطت على الولايات الغربية، حيث تراوحت ما بين 0.8 إلى 240 بكريل من السيزيوم في المتر المربع، وهذه المياه المشعة تنتقل مع الوقت إلى الكائنات النباتية والحيوانية، ثم في نهاية المطاف تصل إلى الإنسان. وفي التاسع من مارس 2012 أعلنت كوريا الجنوبية عن اكتشاف أسماكٍ مشعة تم استيرادها من اليابان، حيث بلغ تركيز المواد المشعة 6.24 بكريل، كذلك أكدت السلطات الفرنسية المعنية في 19 يونيو 2011 عن اكتشاف السيزيوم المشع في شحنة من الشاي الأخضر قادمة من اليابان، حيث بلغت النسبة 1038 بكريل في الكيلوجرام من الشاي.

 

وبالرغم من تسرب هذه المواد المشعة بشكلٍ غير متعمد نتيجة للزلزال والسونامي الذي ضرب المفاعل وقطع التيار الكهربائي فتلوثت الكرة الأرضية برمتها وتعرض الإنسان حتماً لها، إلا أن الحكومة اليابانية مازالت مُصرة وتتعمد هذه المرة في تلويث بيئتنا، حيث أعلنت في 13 أبريل من العام الجاري عن صرفها للمياه المشعة المستخدمة في تبريد الوقود النووي المنصهر الموجود في المفاعلات إلى المحيط الهادئ.

 

فهذه المياه الآسنة المشعة تأتي من مصدرين رئيسين. الأول هو المياه الجوفية التي تلوثت بالمياه المشعة، والثاني هو مياه تبريد المفاعلات، علماً بأن هذه المياه الملوثة تصرف إلى البيئة البحرية منذ وقوع هذه الكارثة العصيبة قبل عقد من الزمن، أي أن التلوث الإشعاعي للبحر لم يتوقف. ولكن الآن الحالة أصبحت ملحة جداً ولا يمكن تأجيلها لفترة أطول، فهذه المياه المشعة تتولد بشكلٍ يومي وبأحجام كبيرة تصل إلى قرابة 170 طناً يومياً من عملية تبريد المفاعلات، وتخزن في خزانات معدنية وصلت الآن إلى ألف خزان، حتى بلغ الآن حجم المياه في موقع المحطة النووية في فوكوشيما إلى قرابة 1.37 مليون طن، فلا توجد سعة إضافية، أو موقع لتخزين هذه الأحجام المتزايدة يومياً. ولذلك اضطرت الحكومة اليابانية إلى اتخاذ قرار التخلص من هذه المياه بعد أن أجلت تنفيذ هذا القرار لعدة سنوات، ولكن مع الأسف اتخذت القرار الأسهل والأرخص ثمناً، وهو صرفها في المحيط الهادئ، كما أنها تبنت في الوقت نفسه السياسية القديمة البالية التي لا جدوى منها من الناحيتين البيئية والصحية، وهي سياسية التخفيف، أي السماح للملوثات من الانطلاق إلى البيئة، ثم تخفيف وتقليل تركيزها مع الوقت في الأوساط البيئية الواسعة والكبيرة، كالمحيطات في هذه الحالة، وقد اعترف رئيس الوزراء الياباني قائلاً إنه: "الخيار الأكثر واقعية"، ولم يقل الخيار الأفضل والأحسن بيئياً وصحياً! 

 

فبالرغم من أن هذه المياه خضعت لعملية إزالة المواد المشعة باستخدام التقنية التي تقوم بترشيح المواد المشعة، والتي تعرف بالنظام المتطور لمعالجة السوائل(ALPS) (Advanced Liquid Processing System)، إلا أن تراكيز منخفضة من بعض الملوثات المشعة ستبقى في المياه دون أن يتم التخلص منها كلياً، وبخاصة وبشكلٍ رئيس النظير المشع للهيدروجين الذي يحتوي على ثلاث ذرات من الهيدروجين بدلاً من ذرتين وهو تريتيم(tritium)، والنظير المشع للكربون(carbon-14)، إضافة إلى ملوثات مشعة أخرى مثل سترونتيم(strontium-90)، وسيزيم(caesium-137)، و(iodine-129).    

فالنسبة للتريتيم الذي هو المكون الأساس لهذه المياه المشعة، فلا توجد معايير تم الاتفاق عليها بين دول العالم بالنسبة للحد الآمن والحد المسموح به في البيئة البحرية، فالموصفات اليابانية هي 60 ألف بكريل في اللتر، ومنظمة الصحة العالمية تفيد بأن الحد المقبول هو 10 آلاف، والاتحاد الأوروبي 100، ولذلك في تقديري فإن هذه المواصفات تضعها الدول حسب ظروفها الواقعية، وليس بناءً على أدلة علمية وصحية بالنسبة لمخاطر هذا الملوث على الكائنات البحرية وعلى الإنسان.

فهذا التصرف الياباني غير مقبول، وأثار احتجاجات على المستويين الداخلي والخارجي. أما على المستوى الداخلي فقد تركزت الاحتجاجات على الصيادين بسبب الخسائر المتلاحقة التي يتعرضون لها بالنسبة للصيد البحري بعد كارثة فوكوشيما، فسمعة الأسماك اليابانية تضررت محلياً وإقليمياً دولياً حيث إن الكثير من الناس يعزفون عن شراء الأسماك من تلك المنطقة البحرية، وصرف هذه المياه المشعة سيزيد الطين بلة. وأما على المستوى الخارجي فقد أبدت الدول المجاورة مثل الصين، وكوريا الجنوبية، والفلبين قلقها الشديد من هذه العلمية. كما أن المدير العام الوكالة الدولية للطاقة الذرية دعا الحكومة اليابانية إلى المزيد من الشفافية والوضوح حول هذه القضية الدولية، فقال بأننا يجب أن نتأكد بأن صرف هذه المياه المشعة في المحيط الهادئ لن تضر بالبيئة، وتكون بدون أي ضرر مهما كان نوعها.

ولذلك ما من شك بأن صرف هذه الأحجام الضخمة من الملوثات المشعة على مدى أكثر من عشرين عاماً، ولو كانت نسبة الإشعاع منخفضة، حتماً ستكون لها تداعيات بيئية وصحية على الجميع، ولكن لا يستطيع أحد أن يحدد هذه التداعيات بشكلٍ دقيق من الناحيتين الكمية والنوعية.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق