الجمعة، 7 مايو 2021

هل سيتحول اللقاح إلى قوة ناعمة؟


استوقفني التقرير من المنشور في 29 أبريل من العام الجاري من شركة أمريكية متعددة الجنسيات تعمل في مجال التقنيات والمعلومات العلمية الصحية حول العالم، وهي شركة إيكويفيا(IQVIA Holdings Inc). هذا التقرير صدر تحت عنوان:" الإنفاق الدولي واستخدام الأدوية"، حيث قدم تقديراً أولياً حول الإنفاق الإجمالي لدول العالم جمعاء على الأدوية بشكلٍ عام وعلى اللقاحات الخاصة بمكافحة فيروس كورونا المسبب لمرض كوفيد_19، حيث أفادت الدراسة بأن الإنفاق الدولي على الأدوية بشكلٍ عام سيبلغ 1.6 تريليون دولار بحلول عام 2025، في حين أن الإنفاق الإجمالي العالمي على لقاحات التصدي لكوفيد_19 ستبلغ قرابة 157 بليون دولار أمريكي بحلول عام 2025. وفي الوقت نفسه أعلنت شركة فايزر الأمريكية في الرابع من مايو من العام الجاري بأن أرباحها من بيع اللقاح ستصل إلى زهاء 26 بليون دولار مع نهاية عام 2021.

 

فهذا الإنفاق العظيم، وهذه التجارة التي لن تبور ولن تنتهي عند الدخول في إنتاج وتصنيع لقاحات فيروس كورونا لا شك بأنها ستثير وتحفز دول العالم الصناعية المتقدمة، الغربية منها والشرقية في كيفية الاستغلال الأمثل لهذا المال الوفير المستدام من الناحيتين السياسية والأمنية، إضافة إلى الاستثمار في حاجة حكومات وشعوب العالم الملحة إلى هذه اللقاحات، وبأسرع وقت ممكن، لحمايتهم من المرض الحتمي والموت البطيء القادم.

 

ولذلك فقد بدأت بعض الدول المصنعة للقاحات، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا، باستغلال هذه الكارثة الصحية العقيمة والأموال التي ستتدفق منها والأرباح التي ستجني من إنتاجها، وحولتها إلى "قوة ناعمة فاعلة"، وورقة سياسية رابحة وبريئة للتأثير على هذه الحكومات التي هي بأمس الحاجة إلى جرعاتٍ من هذه اللقاحات لحماية شعوبها لسنوات طويلة قادمة، إضافة إلى جعل حاجة الناس للقاح وتقديم هذه اللقاحات لهم بشكلٍ مستمر كمدخل ومبرر ناعم وإنساني لغرس ونشر ثقافتها وكسب ود الشعوب ورضاها والإعجاب بدعمها، ثم التغلغل ببطء في تغيير سياساتها وأفكارها، وأخيراً بسط هيمنتها بطريقة أو بأخرى على هذه الدول والشعوب الفقيرة والمستضعفة النامية والمحتاجة، وكل هذه الإنجازات الأمنية السياسية يمكن تحقيقها دون الحاجة، كما كان سابقاً، إلى استخدام القوة وأساليب الترغيب والترهيب، كالغزو العسكري، أو دخول الجيوش إلى الدول لاحتلالها، وما ينجم عنها من خسائر جسيمة مادية، وعسكرية، وسقوط ضحايا بشرية عند جميع الأطراف المتنازعة.

 

فالصين على سبيل المثال، لديها خطة لتطعيم البشر في كل أنحاء العالم، وذلك من خلال توزيع اللقاحات للدول الفقيرة والنامية، إما مجاناً، أو قروض ميسرة، أو بأسعار منخفضة، كما هو الحال بالنسبة للبضائع الصينية بشكلٍ عام، فتنافس أسعار اللقاحات الغربية والروسية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف فقد بَنَتْ 18 خطَ إنتاج جديد للقاح، حسب تصريحات مجموعة بيوتك الصينية القومية(China National Biotec Group)، كذلك رفعت الشركات الصينية الحكومية المصنعة للقاحات، مثل لقاح سينوفارم(Sinopharm) وسينوفاك(Sinovac) وهي مجموعة الصين القومية للأدوية(China National Pharmaceutical Group) لطاقتها الإنتاجية من اللقاحات لتبلغ أكثر من خمسة بلايين جرعة خلال عام واحد، أي أكثر من 65% من سكان العالم الذي يقد بنحو 7.8 مليار نسمة.

 

 وبذلك تسعى الصين إلى أن تكون اللاعب الرئيس على المستوى الدولي في إنتاج اللقاح، وأن يكون لها الفضل والمنة على حكام وشعوب العالم في حمايتها من هذا الوباء العصيب، بل وتهدف بذلك إلى إنشاء "خط الحرير الصحي"، كما هي تعمل الآن على تجديد خط الحرير السابق القديم. فهذا المشروع الجديد المتعلق باللقاح خاصة، والتأمين الصحي للدول يعمل بالتوازي مع المشاريع الأخرى التجارية، ومشاريع بناء البنية التحتية من طرق وموانىء ومطارات وغيرها، وكلها تصب في هدف صيني واحد هو استخدام "القوة الناعمة" لتحقيق المزيد من النفوذ السياسي والأمني والهيمنة الاقتصادية على دول العالم، وبخاصة الدول النامية والفقيرة. 

 

وفي الوقت نفسه دخلت روسيا سباق استخدام "القوة الناعمة" ودبلوماسية إنتاج وتوزيع اللقاح، حيث كانت أول دولة تعلن عن تطوير وإنتاج اللقاح ضد فيروس كورونا في أغسطس من عام 2020، وهو لقاح سبتنك(Sputnik V)، وهي منذ ذلك الوقت تعمل جاهدة على تسويق وتوزيع اللقاح، وكسب نقاط سياسية وإنسانية على الدول التي تتفضل بها عليهم، وقد قال في هذا السياق الرئيس التنفيذي راسموس هانسن (Rasmus Bech Hansen)لشركة (Airfinity)في الرابع من مايو بأن روسيا وافقت على تقديم 630 مليون جرعة لأكثر من مائة دولة.

 

وهذا التنافس بين القوى العظمى على هذه الهيمنة الناعمة، والتأثير الدولي، وتقوية العلاقات بين الدول، لم يكن بعيداً عن الولايات المتحدة الأمريكية، فهي دائماً تريد أن تكون خطوة أمام مساعي وخطط الصين وروسيا، وتريد أن تكون لها اليد الطولى في هذه الخدمة "الناعمة" المقدمة للدول، فأمريكا لها المقومات والمؤهلات التي تجعلها ناجحة ومؤهلة لتنفيذ دبلوماسية اللقاح، فمعظم شركات تصنيع اللقاح الكبرى هي شركات أمريكية، ومقرها في أمريكا، مثل فايزر، وموديرنا، وجونسون أند جونسون، ونوفافاكس. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن أمريكا منذ أشهر طويلة وهي تستخدم هذه القوة الناعمة لبسط نفوذها على أوكرانيا، فالرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي(Volodymyr Zelensky) منذ عهد ترمب في ديسمبر 2020، وهو يتوسل للحصول على جرعات من اللقاح، حيث تبرعت له أمريكا بمبلغ 48 مليون دولار لمكافحة الوباء، حسب التقرير المنشور في صحيفة "بوليتيكو" في الرابع من مايو 2021، كما أن أوكرانيا طلبت اللقاح الأمريكي عند زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن لكييف في السادس من مايو من العام الجاري. كذلك تعهد الرئيس بايدن في الرابع من مايو من العام الجاري بأنه سيوزع 10% من اللقاحات التي تنتجها أمريكا بحلول الرابع من يوليو على دول العالم.

 

واستخدام هذه "القوة الناعمة" ودبلوماسية اللقاح ستكون لسنوات طويلة قادمة، وستكون ناجحة ومؤثرة، وفاعلة في تحقيق أهدافها التي ربما تختلف من دولة إلى أخرى. ويرجع سبب هذه الاستدامة والنجاح في عدة عوامل، منها ما يلي:

أولاً: لقاح فيروس كورونا مصمم على جرعتين، وليست جرعة واحدة فقط وتنتهي، كما أن هناك شركات إنتاج اللقاح، مثل فايزر قد أعلنت عن الحاجة إلى جرعة ثالثة، إضافة إلى جرعة واحدة كل سنتين يأخذها الإنسان مدى الحياة، أي أن حاجة الدول النامية خاصة والفقيرة إلى الدول الصناعية المتقدمة في الشرق والغرب التي تنتج اللقاح لن تنتهي، وستظل تمد يدها للحصول على جرعات دائماً من هذا اللقاح. إضافة إلى أن الشركات الأمريكية تعمل حالياً على تطوير الجيل الثاني والثالث من اللقاح، بحيث يكون أسهل من ناحية التخزين والنقل وأكثر فاعلية في حماية الصحة العامة، فيؤخذ على شكل حبوب، أو بخاخ للأنف، مما يعني تجديد الحاجة إلى اللقاح مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، إلى أن يشاء الله، وإعادة الدورة مرة أخرى.

ثانياً: هذه الجرعات الكثيرة من اللقاح تمثل عبئاً لا يُطاق على ميزانية الدول النامية، مما يضطرها إلى قبول "الهبات والعطايا" المجانية من الدول العظمى، وهذه الهبات لن تكون خالصة لوجه الله، ولا لدواعي إنسانية لا يريدون منها جزاءً ولا شكورا، وإنما ستكون لها تبعات سياسية وأمنية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق