الأحد، 21 أبريل 2013

التهديد الداخلي لأمن الدول النووية


لا تَحْسبنَّ الدول النووية، وبخاصة الدول التي لديها قنابل وأسلحة وذخائر نووية في مأمنٍ وسلام من انعكاسات وخطورة هذه الأسلحة غير التقليدية على أمنها الداخلي وأمن شعوبها من جهة، وسلامة بيئتها ومواردها الطبيعية من جهة أخرى، فهذه الدول نفسها تعاني أكثر من الدول غير النووية من التهديدات المزمنة لمخلفات هذه الأسلحة ومخلفات الاستخدامات السلمية للطاقة النووية منذ أكثر من 70عاماً، وهي نفسها وفي عقر دارها قد تتضرر بشدة فتَهْلك بسبب وجود عشرات الآلاف من الأطنان من هذه المخلفات المشعة السائلة وشبه الصلبة المتكدسة في مواقعِ عدة في أراضيها، والتي تُعد قنابل موقوتة قد تنفجر يوماً ما في وجوه الدول التي أدخلت هذا النوع من الطاقة النووية لأغراض عسكرية أو سلمية في بلدانها.

وهذه التهديدات الداخلية المتعاظمة لأمن الدول النووية بدأت تنكشف بجلاء مع الوقت، فظهرت في السنوات الأخيرة الكثير من حوادث التسربات الإشعاعية من هذه الأطنان من مخلفات الدمار الشامل المكدسة في الدول، ولكن معظم هذه الحوادث لا تلقى النور الإعلامي والضوء الشعبي، فيتم إخفاؤها والتستر عليها، إلا في الحالات النادرة التي تفوح رائحتها، فيشمها الناس، ولا يمكن عندئذٍ إسدال الستار عليها والتعتيم على وجودها.

ومن هذه الحالات النادرة التي سَلَّط الإعلام الضوء عليها، ولكن لفترة وجيزة ثم اختفى عنها الضوء، ما وقع مؤخراً في مدينة هنفورد بولاية واشنطن الأمريكية، والمعروفة بمحمية هنفورد النووية(Hanford Nuclear Reservation) الواقعة جنوب شرق الولاية والتي تبلغ مساحتها أكثر من 1500 كيلومترٍ مربع أي أكبر مرتين من مساحة البحرين.

وتبدأ قصة هذا التسرب الإشعاعي أثناء الحرب العالمية الثانية عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية باختيار موقعٍ ناءٍ وبعيد وفي غاية السرية لإنتاج القنبلة الذرية، وفي هذا الموقع السري الذي يقع في مدينة هنفورد، تم إنتاج البلوتونيم لأول مرة من أجل صناعة أول قنبلة ذرية والتي ألقيت بعد ذلك على اليابان وأنهت بذلك الحرب العالمية الثانية. ولكن العمليات السرية المتعلقة بإنتاج أجيالٍ جديدة من القنابل النووية والأسلحة غير التقليدية الأشد فتكاً والأوسع دماراً للبشرية لم تتوقف عندها، والتسابق المجنون بين الدول الكبرى على التسلح النووي بكافة أشكاله وأحجامه لم ينته، ومع استمرار هذه العمليات والتجارب اللاإنسانية، زادت أحجام المخلفات المشعة بدرجة كبيرة جداً، سواء أكانت سائلة أم صلبة، أم شبه صلبة، ولكن في ذلك الوقت ومع نشوة الانتصار وشهوة السيطرة والهيمنة على العالم، نَستْ أمريكا والدول الأخرى الداخلة في السباق أمر هذه المخلفات المشعة، وتجاهلت وجودها وتكدسها في مواقع إجراء التجارب، أو توليد الطاقة النووية.

وبعد سنوات من الجَري لتحقيق السَبْق والتفوق والعلو في إنتاج الأسلحة، بدأت أمريكا رويداً رويداً تلتف نحو القضية الكبرى التي بدأت أبعادها الأمنية والسياسية والبيئية والصحية تزداداً يوماً بعد يوم، حتى تحولت الآن إلى كابوسٍ مرعب ينزل على المعنيين في كل ليلة.

وفي إحدى الليالي الطويلة الظلماء تحول الحلم المخيف إلى واقعٍ حي رآه الأمريكيون ماثلاً أمامهم وشاهدوه بأعينهم، فقد وقع تسرب إشعاعي كبير من ست حاويات من بين 177 حاوية مدفونة في أعماق الأرض وتحمل في بطنها مخلفات تقدر بنحو 53 مليون جالون، وهذه الحاويات مدفونة في الموقع منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، وقد أعلنت السلطات المحلية هذا الخبر المخيف في مؤتمر صحفي لحاكم ولاية واشنطن، حيث وصف هذه الحالة بأنها: ”خبر مزعج جداً“، وأضاف قائلاً بأن الإشعاعات:”مادة شديدة السمية، ولكنها لا تسبب خطورة فورية على الصحة، كما إنها تثير أسئلة جادة حول سلامة وجود المخلفات في الحاويات“. 

وفي الحقيقة أن كل علماء أمريكا، بل وعلماء العالم أجمع عجزوا عن إيجاد حلٍ جذري للتخلص من هذه القنابل الموقوتة المكدسة في الدول النووية، ولم يتمكنوا من وقف التسربات الإشعاعية التي نسمع عنها بعض الأحيان من هذه المخلفات، ويكفي أن أُقدم لكم آخر محاولة فاشلة قامت بها أمريكا. فقد وَقَعتْ وزارة الطاقة اتفاقية مع وكالة حماية البيئة وولاية واشنطن عام 1989 للبدء في بناء محطةٍ لمعالجة هذه المخلفات المشعة، وبكلفة تقديرية بلغت 12.2 بليون دولار، وأخذت مرحلة التصاميم فقط نحو أكثر من عشر سنوات، حيث شرع في البناء في أكتوبر 2001، ومنذ ذلك الوقت وحتى كتابة هذه السطور والمشروع يراوح في مكانه، فلا يعلم أحد موعد الانتهاء، ولا الكُلفة النهائية والتي بلغت حتى يومنا هذا قرابة 13.4 بليون، أي أضعاف التقدير الأولي. وفي المقابل أيضاً مازالت عقول أمريكا العلمية والمتطورة تبحث منذ عقود عن مكانٍ مناسب وآمن لتخزين هذه المخلفات تحت الأرض، وذلك بالرغم من مساحة أمريكا الشاسعة وصرف أكثر من 15 مليار دولار على الأبحاث والدراسات في هذا المجال!

ولذلك لا نحسد الدول النووية على تقدمها في هذا المجال، فالطامة الكبرى التي يعانون منها يومياً من وجود مخلفات الدمار الشامل المشعة بين أيديهم، والتي يواجهون تداعياتها الخطرة منذ عشرات السنين دون وجود بريق أملٍ للحل، لا تعادل المردودات الايجابية التي يحصلون عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق