الاثنين، 1 أبريل 2013

النِفاق الغربي


في السنوات الأخيرة من دراستي للتحضير لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر معهد العلوم والتقنية في مدينة مانشستر البريطانية، وبالتحديد عام 1984، وقع حَدَثٌ تاريخي لم تشهد بريطانيا مثله لا من قبل ولا من بعد، وكاد هذا الحدث أن يهز كرسي المرأة الحديدية رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر، ويدك عرش حزب المحافظين الحاكم آنذاك.

هذا الحدث الذي استمر زهاء عامٍ واحد تمثل في الإضراب العام والشامل لعمال مناجم الفحم في كافة المدن البريطانية والتوقف عن العمل كلياً لعامٍ واحد، وشل حركة التنمية في كافة ربوع بريطانيا.

فقد ألقى هذا الحدث بظلاله على المصدر الرئيس للطاقة في بريطانيا وهو الفحم، والمـولِّد الأول لحركة النهضة والتنمية في المصانع ومحطات توليد الكهرباء لتشغيل المحركات وتدفئة المنازل والمؤسسات، وكان دافعاً لتعديل سياسات مصادر الطاقة في بريطانيا بالتحديد، وفي دول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ عام.

وعلاوة على ذلك، فقد اتجهت سياسات الدول الأوروبية وبخاصة بعد وقوع ظاهرة التغير المناخي وتحديد المتهم الرئيس وراء ارتفاع درجة حرارة الأرض، وهو غاز ثاني أكسيد الكربون، إلى خفض الاعتماد تدريجياً على الوقود الأحفوري غير المتجدد من بترول وفحم بسبب ارتفاع انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون عند حرقهما، والاعتماد بشكل أكبر على مصادر الوقود النظيفة والمتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة العضوية، إضافة إلى الطاقة النووية.

ومنذ ذلك الوقت، أخذ نجم الفحم كمصدر رئيس للطاقة والكهرباء في دول أوروبا في الأفُول، وبدأت الكثير من مناجم الفحم في وضع الشمع الأحمر على أبوابها وإغلاقها إلى أجلٍ غير مسمى. وصاحب انخفاض طلب دول الاتحاد الأوروبي لاستعمال الفحم، الدعوة نحو خفض انبعاث الغازات المسئولة عن التغير المناخي ورفع درجة حرارة الكرة الأرضية، والتزمت دول الاتحاد الأوروبي بسقفٍ زمني مُحدد لخفض الانبعاث من خلال توقيعها وتصديقها على بروتوكول كيوتو حول التغير المناخي لعام 1996. 

وبدأت كل دولة تُزايد على الدولة الأخرى في حمايتها للبيئة وحفاظها على الهواء والماء والتربة والالتزام بتعهداتها والوفاء بسياساتها الرامية إلى خفض الانبعاث، والتحول من سياسة الطاقة المعتمدة كلياً على الفحم والبترول إلى سياسة التنوع في مصادر الطاقة والاعتماد تدريجياً على مصادر الطاقة البديلة والنظيفة والمتجددة التي لا تنجم عنها انبعاثات تؤدي إلى تدمير البيئة ومواردها وثرواتها الطبيعية من خلال ارتفاع درجة حرارة الأرض وحدوث التغير المناخي.

ولكن شاءت الأقدار والأحداث أن تكشف زيف ادعاءات الدول الغربية بشكلٍ عام حول حمايتها للبيئة كأولوية لحكوماتها، وفشلها في أول امتحانٍ حقيقي عَرى نواياها الخفية أمام الملأ، وأكد نفاقها البيئي وتنفيذها لمعايير مزدوجة تَعتَمد أساساً على حماية مصالحها السياسية والاقتصادية، والحفاظ على تنميتها وازدهار خزائنها المالية، ولو كان على حساب بيئتها ومواردها الطبيعية.

فالامتحان الأول بدأ مع حلول عام 2008 عندما دخل العالم الغربي بصفةٍ خاصةٍ في ظلمات الكساد والركود الاقتصادي، فدخلت البيئة أيضاً معها في هذا النفق المظلم المخيف، فكُل اجتماعات التغير المناخي المعنية بخفض انبعاث الملوثات وحماية الكرة الأرضية قد فشلت، بدءاً بقمة كوبنهاجن عام 2009، واجتماع كنكون 2010، ثم ديربن 2011، وأخيراً الدوحة 2012.

ثم جاء الامتحان الثاني المتمثل في وقوع أكبر كارثة تلوثٍ إشعاعي في تاريخ البشرية وهو احتراق مفاعلات فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011، والتي كان من انعكاساتها العزوف عن استخدام الطاقة النووية، وبروز نجم مصادر أخرى قد أَفَلَ في السنوات الماضية وكاد أن يموت وهو الفحم.

ولذلك تحت الأضواء الخافتة، وعند حلول ظلام الليل وفي سرية تامة، تقوم الدول الأوروبية الآن بحرقِ أقذر نوعٍ من أنواع الوقود، وأشده تأثيراً على البيئة والإنسان، وهو الفحم، وذلك فقط لانخفاض سعره ووفرته، غير آبهةٍ بالبيئة وتلوثها وحماية الكرة الأرضية من التغير المناخي، أي كما يقول المثل “عادتْ حليمة لعادتها القديمة”.

فهذا هو نفاق الدول الغربية، ليس في مجال ادعاءاتها لحماية البيئة فحسب، وإنما أيضاً في مجالات حقوق الإنسان والتسلح النووي وغيرهما من المجالات التي يعرفها الجميع.      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق