الأحد، 15 مارس 2015

الحرب المستمرة للجنود الأمريكيين


تتسابق وسائل الإعلام بكل أنواعها الرسمية وغير الرسمية في نيل شرف السبق والريادة في نقل أخبار المعارك والحروب الساخنة أثناء وقوعها، وعندما تضع هذه الحروب أوزارها، تخفت الأضواء عنها يوماً بعد يوم، ويقل الاهتمام بها رويداً رويدا، ويُسدل الستار عنها فينتقل المشهد إلى موقعٍ آخر، وتتوجه عدسات الكاميرات إلى أحداثٍ أخرى أكثر سخونة، وأشد اهتماماً من قبل الناس، وأكثر جذباً للقراء والمشاهدين.

 

ولذلك فالتداعيات المؤلمة والمدقعة على الجنود والناس والمجتمع برمته والتي تنجم عن هذه الحروب بعد الانتهاء منها تكون عادةً منسية، وتتجاهلها وسائل الإعلام من جانب والجهات الرسمية التي هي أدخلتهم في أتون هذه الحروب المريرة من جانبٍ آخر، فالضحايا من مدنيين وجنود وعسكريين تختفي عنهم أنوار وسائل الإعلام، ويتهاوى الاهتمام بمشاكلهم ومعاناتهم النفسية والعضوية، فيبقون وحيدين يخوضون أهوال هذه المعركة الجديدة، ويقاسون من انعكاساتها وسلبياتها.

 

وهذه الظاهرة تنطبق على عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، وهم الآن ومنذ أكثر من ربع قرن يقعون تحت وطأة معركةٍ شديدة وضارية، قد تكون أكثر شراسة من الحرب التي دخلوا فيها، وهي معركة صحية عضوية نزلت عليهم مباشرة بعد الانتهاء من المعارك الميدانية، ولم يتمكن التقدم الطبي الكبير الذي تتمتع به أمريكا من سبر غور هذه الأزمة الصحية وفك رموز أسبابها ومصادرها وطرق علاجها.

 

فالجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج وعددهم نحو 700 ألف، تعرض الكثير منهم لمحنة جديدة بعد رجوعهم إلى أرض الوطن، وهذا الكرب الذي وقع عليهم لم يكن متوقعاً، فمن المفروض أنهم بعد هذه المعارك المهلكة والمنهكة للجسم والعقل والنفس التي خاضوها أثناء الحرب، أنهم يحصلوا على قسطٍ من الراحة النفسية والعضوية، وأنهم ينالوا فترة من الأمن والدعة والاطمئنان، ولكن هذا ما لم يحدث، ففَورَ وصولهم بدأت تظهر عليهم أعراض مرضية غريبة ومتعددة لم يعهدها الجنود من قبل، منها الإرهاق والشعور بالتعب المستمر، والإحساس بالألم المزمن، والإصابة باضطرابات في المعدة، ومشكلات في الفهم والإدراك والحركة، ومع الوقت ارتفعت أعداد الجنود الذين انكشفت عليهم هذه الأعراض الفريدة من نوعها، حتى بلغ العدد قرابة 54 ألف، ولم يتمكن المجتمع الطبي الأمريكي من إيجاد تفسيرٍ علميٍ طبيٍ لهذا الكم الهائل من الحالات، سوى أنه أطلق عليها بالحالات النفسية التقليدية التي تصيب الجنود نتيجة للإجهاد والصدمات والضغوط التي يتعرضون لها والتي تعرف بضغوط ما بعد الحروب(post-traumatic stress disorder).

 

ومع ارتفاع أصوات الجنود المرضى، واشتداد معاناتهم وزيادة آلامهم، بدأ الكونجرس يتفرغ لهم قليلاً، فشَكَّل لجنة بحثية استشارية خاصة لدراسة هذه الظاهرة، وفي عام 2008 نشرت اللجنة تقريرها وأشارت فيه أن هذه الأعراض المرضية عضوية فسيولوجية، وليست نفسية، وظهرت بسبب التعرض لخليط من الملوثات الكيميائية السامة، منها المبيدات الحشرية، ومنها الأدوية والعقاقير التي أعطيت للجنود لوقايتهم من غازات الأعصاب والقنابل البيولوجية، وأُطلق على هذا المرض الفريد رسمياً بمرض حرب الخليج(Gulf War illnesses)، أو ظاهرة حرب الخليج(Gulf War syn­drome). 

 

وفي الحقيقة فإن الجنود الأمريكيين كانوا ضحية لسياسات البنتاجون الجائرة والخفية ضدهم، فقد تعرضوا أثناء الحرب وبعد الحرب لملوثات كيميائية خطرة لم يعلموا عنها، ولم يُشعروا بها، بل وأُخفيت عنهم هذه المعلومات عمداً تحت مبرر أنها "مهمات سرية"، حيث نشرت مجلة التايمس في 29 أكتوبر 2014 تحقيقاً كشفت فيه هذه الحقيقة، ثم أكدت صحيفة النيويوك تايمس في الثالث من ديسمبر 2014 على هذا الاكتشاف الخطير في المقال المنشور تحت عنوان:"الأسلحة الكيماوية في العراق: إفشاء أسرار البنتاجون المخفية"، وأكدوا فيهما أن الجنود الأمريكيين كانوا يتعرضون لملوثات كيميائية سامة ناجمة عن الأسلحة الكيميائية القديمة في العراق، والتي كانت تتآكل وتتسرب منها السموم، كما تعرضوا لها عند تدميرهم لهذه القنابل والذخائر بمختلف أنواعها وأحجامها.

 

ولذلك فإن هذا المرض الغريب الذي يقاسي منه عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين منذ أكثر من عقدين من الزمن قد يكون بسبب تعرضهم لخليط من الملوثات السامة والخطرة أثناء وبعد الحرب، ولكن البنتاجون لا يريد حالياً أن يفصح كلياً عنها حتى لا يُحدث ذلك ردة فعل قوية، وغضب عارم من قبل الجنود لا تحمد عقباها.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق