السبت، 19 سبتمبر 2015

قناديل البحر تَحْتل بِحارنا: تجربة شخصية


ليس من باب المبالغة والتهويل في الكلام أن أَكْتب بأن "الجيلي جيش"، أو قناديل البحر بدأتْ رويداً رويدا تحتل كل بحار العالم، في الشرق والغرب، البعيدة والقريبة، فأصبحنا الآن نشاهدها في كل مكان أينما كُنا، وكُل من يسبح في البحر يحكي تجربته المريرة مع هذا المخلوق الهلامي الضعيف الذي يبدوا ظاهرياً بأنه لا حول له ولا قوة ولا يُلحق الأذى بأَحَد، وأنا شخصياً من بين هؤلاء الذين تعرضتُ لهذا الكائن الغازي والمحتل لبحارنا.

 

فقد كُنتُ قبل أيام في أحد المنتجعات المعروفة على الخليج العربي، وشدَّني للسباحة في البحر صفاء لون الماء الزُلال، ونقاوته العالية، وزرقته الجاذبة، فدخلت فوراً في البحر لأتمتع بهذا الجمال الطبيعي الخلاب وأهرب قليلاً من القيظ الشديد لأغوص في برودة الماء، وما أن مكثت دقائق في ماء البحر وإذا بي أَحسُ في البداية بوَخْزات بسيطةٍ في جلدي، ثم تحولتْ إلى عضَّةٍ مؤلمة ولَسْعَةٍ حارقة، مما أجبرتني إلى الخروج جرياً من الماء، ولما أخذتُ أُدقق النظر في عمود الماء وأشاهد بتفحص وعن قرب، وإذا بي أرى المئات من هذه الكائنات الحية البيضاء الصغيرة الحجم وهي تسبح بكثافة في هذه المياه، ولم أَكُن الشخص الوحيد الذي فرَّ هارباً من البحر كما تفر الحُمر المستنفرة من القسورة، فإذا بي أرى العشرات من الناس أمامي مستلقين على الشاطئ على حبات الرمل الناعمة وهم يتلقون العلاج من هذه العضة القاسية.

 

وفي الوقت نفسه نقلت الصحف الغربية عن تجربة ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا مع هذا الكائن البحري، حيث أفادت بأن مرتادي ساحل أريتا(Arrieta) في جزيرة لانزاروت(Lanzarot) الإسبانية  السياحية المعروفة شاهدوا رئيس وزراء بريطانيا وهو يركض فجأة ويخرج سريعاً من البحر ويَحكُ يديه وذراعيه بقوة، كما سمع الناس الموجودين بالقرب منه على الساحل صِرَاخَه بصوتٍ عال من شدة الألم.

 

فهذا الكائن البسيط، الصغير الحجم، وهزيل الجسم، وضعيف البُنْية، والذي تتقاذفه الأمواج والتيارات البحرية من مكانٍ إلى آخر، إذا انكشف في منطقةٍ بحرية ما، تُدق أجراس الإنذار، وترتفع أصوات وسائل الإعلام مُعلنة الحذر الشديد من الاقتراب أو الدخول في تلك المنطقة البحرية، كما إذا سمع مرتادو البحر عن وجود هذا الكائن يَرْتَعِدون خوفاً، ويَرْتَعِشُون ذعراً منه، ولا يقتربون من تلك المنطقة.

 

فهذا الكائن الضعيف الذي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَله العذاب والألم أصبح في السنوات القليلة الماضية بسبب نموه المتزايد والمتعاظم والكثيف يحتل مناطق واسعة من جميع بحار العالم ويسيطر عليها سيطرة تامة، ويُشكل تهديداً حقيقياً للإنسان من جهة وللبيئة البحرية وكائناتها من جهة أخرى، وتتمثل هذه التهديدات في الجوانب البيئية، والصحية، والاقتصادية، والسياحية، والاجتماعية، والجمالية.

 

فقد شاهدنا هذا الكائن الضعيف قبل سنوات وهو يسد فتحات أنابيب المياه التي تُدخل ماء البحر في محطة سترة لتحلية المياه ويسبب لها الكثير من المتاعب والإزعاج والإرباك غير المتوقع لعمل المحطة، كما سمعنا في الأول من أكتوبر من عام 2013 عن وقوع شللٍ في عمل أكبر وأول محطة نووية في السويد لتوليد الكهرباء على بحر البلطيق، وكان هذا المخلوق الهش يقف وراء هذا الشلل والتوقف المفاجئ للمحطة، وكاد هذا الكائن "البريء المظهر" أن يُوقع كارثة نووية لا يعرف أحد عواقبها وانعكاساتها على الإنسان والكرة الأرضية برمتها. كذلك شاهدنا الهجوم الجماعي لجحافل عظيمة منها للسواحل وغزوها الكامل لها والاستيطان فيها وطرد جميع السواح منها وإغلاق المنطقة البحرية برمتها بالشمع الأحمر، والذي ترتب عليها خسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة على الجميع.

 

فهذه الظاهرة الحديثة المتمثلة في النمو غير الطبيعي للجيلي فيش واحتلالها للسواحل يعزى إلى عدة أسباب من أهمها هو الصيد البحري الجائر باستخدام كافة الوسائل والأدوات المشروعة وغير المشروعة والذي أودى بحياة الكثير من أنواع الأسماك التي كانت تتغذى على قنديل البحر، مما ترك الباب مفتوحاً لهذا النوع من الكائنات في التكاثر والنمو بدرجةٍ كبيرةٍ وفي مناطق واسعة من البيئة البحرية، ومنها التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة البحار التي تعمل كمغذي طبيعي يساعد على نموها وتكاثرها، إضافة إلى تلوث البحر الناجم عن مياه التوازن في السفن ومن المصانع الساحلية ومياه الصرف الصحي والزراعي.

 

ولذلك نجد أن تصرفات وسلوكيات الإنسان المـُتـَـعدية على حرمات البيئة والمفسدة لنوعيتها وهويتها هي التي كونت ظواهر بيئية خطيرة تهدد أمن وسلامة الإنسان والبيئة معاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق