الخميس، 24 سبتمبر 2015

ولاية أمريكية ترفع دعوى ضد حكومتها الاتحادية!



هل سَمِعتم عن وزارة، أو أية جهة حكومية تشتكي على الحكومة نفسها، أو ترفع دعوى قضائية ضدها في المحاكم؟
فهل مثل هذه الممارسات مقبولة ومعمول بها في الدولة الواحدة؟

أما في دول العالم النامي أو "الثالث" فهذه التصرفات غير مقبولة وغير واقعية، وإن وجدت فإنها غير مُفَعلة وغير مجدية، فالجهاز الحكومي أو الهيئة الحكومية لا ترفع شكوى على الحكومة نفسها، بل ونجد أن الأجهزة الرقابية الحكومية وغير الحكومية عادةً ما لا تحاسب الوزارات والهيئات والمجالس الحكومية الأخرى، فليس بقدرتها عملياً وواقعياً رَفْع مخالفات وتجاوزات هذه الجهات إلى القضاء للمحاسبة والعقاب.

ولكن في الدول الصناعية المتطورة نرى أمثلة واقعية ونشاهدها أمامنا، ونقرأ عنها في وسائل الإعلام المختلفة، وكلها تؤكد أن آلية رفع الشكوى، والمراقبة، والمحاسبة موجودة قانوناً ومُفعلة في الحياة اليومية بين الأجهزة الحكومية نفسها. 

وسأضرب لكم مثالاً واحداً فقط لقضية بيئية مزمنة يعاني منها سكان ولاية واشنطن الأمريكية لأكثر من سبعين عاماً، وبالتحديد سكان مدينة هانفورد والمدن الأخرى الواقعة بالقرب منها، مما اضطر حكومة هذه الولاية بعد الصبر والمصابرة لهذه السنوات العِجاف إلى رفع دعوى قضائية، وتوجيه التُهم ضد حكومتهم الأمريكية الاتحادية، وبالتحديد وزارة الطاقة المعنية مباشرة عن معاناة المواطنين في هذه الولاية طوال العقود الطويلة الماضية.

وتَرجع قصة هذه الدعوى إلى مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد عام 1943، عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية صناعة قنبلة دمارٍ شامل فريدة من نوعها لم يشهدها العالم من قبل، فتاكة ومدمرة للحرث والنسل والأخضر واليابس لكي تكسب بها الحرب، فبدأت ببرنامجٍ سري أُطلق عليه "مشروع منهاتن" في موقع في غاية السرية بعيدٍ جداً عن المدن الحضرية والمناطق المأهولة للسكان، وسُمي بموقع هانفورد النووي(Hanford Nuclear Reservation) الواقع على نهر كولومبيا، ومساحته 1517 كيلومتراً مربعاً، أي نحو ضعف مساحة البحرين، حيث هدف المشروع إلى إنتاج البلوتونيوم لصناعة أول قنبلة ذرية أُلقيت بعد ذلك على هيروشيما وناجازاكي في اليابان، فكانت نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من ذلك فإن المشروع لم يتوقف واستمر حتى عام 1987 مع استمرار الحرب الباردة. وفي هذه الأثناء، ومع انشغال أمريكا بصناعة جميع أشكال وأنواع الأسلحة والقنابل والصواريخ النووية لتدمير البشر والحجر والتركيز على التفوق العسكري، أَهملت تماماً مكونات البيئة الطبيعية، وتجاهلت كلياً عناصر البيئة من أنهار سطحية وجوفية، وهواء، وتربة، فسياسة أمريكا ونظرتها في تلك المرحلة التاريخية كانت "أمنية" بحتة، واتجهت كلياً نحو صناعة الأسلحة مهما كلف الثمن وعلى حساب كل شيء، فصحة الإنسان والبيئة وحماية الثروات والموارد كانت في تلك الحقبة قضايا هامشية وجانبية لا تجذب اهتمام رجال السياسة وقادة الجيش، ولذلك نجد أن برامج صناعة الأسلحة وَلَّدتْ مع الوقت أحجاماً ضخمة من المخلفات المشعة شديدة الخطورة على البشر والبيئة، فتفاجأت أمريكا بعد عقود أنها تقف مكتوفة الأيدي وحائرة أمام ملايين الأطنان من "مخلفات الدمار الشامل" المتراكمة في عقر دارها، والتي تمثلت في قرابة 25 مليون قدم مكعب من المخلفات المشعة الصلبة، ونحو 56 مليون جالون من المخلفات الخطرة المشعة شبه الصلبة والسائلة والتي تم وضعها في 177 خزاناً تحت الأرض، إضافة إلى 520 كيلومتراً مربعاً من المياه الجوفية المشعة تحت سطح الموقع نتيجة لتسرب المواد المشعة من الصهاريج والخزانات وانتقالها إلى الأنهار الجوفية. وعلاوة على هذه المخلفات، فقد تسربت مواد مشعة إلى الهواء الجوي مع الوقت وأدت إلى إصابة العمال والسكان في الموقع بأمراض مزمنة وخطيرة منها السرطان وغيرها.

وبالرغم من معرفة الحكومة الأمريكية الاتحادية بهذا الوضع البيئي والصحي المأساوي، إلا أن وزارة الطاقة المسئولة عن إدارة المخلفات في الموقع لم تحرك ساكناً على مدى أكثر من سبعين عاماً، ولم تُقدم حلولاً جذرية للتخلص من هذه الأطنان من "قنابل الدمار الشامل" الموجودة تحت الأرض وفوقها والتي تهدد حياة الناس للخطر والموت المحتوم، مما أدى إلى نفود صبر المعنيين في ولاية واشنطن وفقدان ثقتهم بوعود وزارة الطاقة المتكررة منذ عقود، فتوجهوا إلى القضاء لحل قضيتهم الأزلية.

واستخدام هذه الآلية المتمثلة في قُدرة جهة حكومية على محاسبة ورفع دعوى قضائية ضد جهة أخرى تُعد من محاسن النظام الأمريكي، وآمل الاقتداء بها في مثل هذه الممارسات الصِحِيَّة والبناءة للوطن والمواطن.         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق