الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

النزاعات المسلحة ليست شراً كلها!


النزاعات المسلحة والحروب شر على الجميع ولا خلاف على ذلك، فهي تأكل الأخضر واليابس، وتدمر الحرث والنسل، وتقتل الصغير والكبير والبريء والمذنب، فهي لا تُبقي ولا تذر، وتهلك وتحرق كل شيء يقف أمامها.

ولكن كما يقول المثل "رُب ضارةٍ نافعة"، فهل هل هناك منافع أو محاسن قد تنتج عن هذه الصراعات والنزاعات التي تنشب في الدولة الواحدة أو بين الدول، بالرغم من هذا الدمار الشامل والفساد العام المشهود الذي تحدثه هذه الصراعات؟

 

فالإجابة عن هذا السؤال تأخذنا إلى دراسةٍ فريدة من نوعها وإبداعية قام بها علماء من معهد ماكس بلانك الألماني العريق ووكالة الفضاء الأمريكية ناسا، ونُشرت في مجلة تُعنى بأحدث ما توصل إليه العلماء، واسمها "التطورات في العلم"(Science Advances) في 21 أغسطس من العام الجاري، وكان عنوان الدراسة: “تغير مفاجئ في أنماط تركيز ثاني أكسيد النيتروجين فوق منطقة الشرق الأوسط". وقد استخدم الباحثون أداة علمية لأول مرة للتعرف على العلاقة بين النزاعات والصراعات المسلحة والمقاطعات والعقوبات الاقتصادية الدولية التي تُفرض على بعض الدول، وحالة البيئة في هذه الدول، وبالتحديد بالنسبة لوضع جودة الهواء الجوي ونوعيته، من حيث إنها هل تزداد سوءاً وفساداً مع هذه الأزمات الطارئة، أم أنها تتحسن أحوالها وتصبح أفضل من قبل.

 

وقد تَبَنْتْ هذه الدراسة الجديدة تقنيات وأدوات الاستشعار عن بعد، حيث قامت بتحليل الصور والمعلومات الناجمة عن القمر الصناعي أيورا(Aura) فوق هذه المدن التي تعاني من عدم الاستقرار والأزمات الخانقة، سواء أكانت أزمات سياسية وأمنية، أو أزمات اقتصادية ومالية، وقارنت بين نوعية الهواء فوق هذه الدول قبل الأزمة وأثناء الأزمة وبعد الانتهاء من الأزمة، وبالتحديد من ناحية التعرف على مستوى غازات أكاسيد النيتروجين السامة البُنية اللون في الهواء الجوي.

 

وقد ركزت الدراسة على أكاسيد النيتروجين لأنها تنبعث عن أية عملية احتراق للوقود الأحفوري، سواء في السيارات، أو المصانع، أو محطات توليد الكهرباء، أو الطائرات، وهي مجموعة من الملوثات الخطرة المسئولة عن تَكَون السُحب البنية الصفراء اللون القاتلة للصحة والمعروفة بالضباب الضوئي الكيميائي(photochemical smogوالذي يمكن مشاهدته بالعين المجردة فوق كل المدن الحضرية.

 

فمع بدء انتشار وتوسع ما أُطلق عليه "الربيع العربي" عام 2011 في منطقة الشرق الأوسط، ودخول هذه الدول في حالة عدم الاستقرار السياسي ونشوب الصراعات والنزاعات المسلحة، حدث أمرٌ غير متوقع، ولم يكن في الحسبان، حيث انعكست هذه الحالة السياسية والأمنية على نوعية الهواء الجوي، فقد تغيرت أنماط تركيز أكاسيد النيتروجين في الهواء الجوي تغيراً جذرياً من الصعود والارتفاع قبل عام 2011 إلى النزول والانخفاض مع استمرار تدهور الوضع الأمني بعد 2011، فانخفاض معدلات التنمية وحدوث شلل في النشاط اليومي للناس، والذي تمثل في توقف أو انخفاض إنتاج المصانع ومحطات توليد الكهرباء وانخفاض الحركة المرورية، أدى إلى انخفاض حرق الوقود بشكلٍ عام وبالتالي تدني مستويات انبعاث الملوثات الناجمة عنها. فعلى سبيل المثال، تمخض عن الحرب الأهلية في سوريا انخفاض في مستوى أكاسيد النيتروجين بنسبة 50%، كما أن احتلال "داعش" لبعض المدن العراقية انعكس مباشرة على جودة الهواء حيث انخفض تركيز أكاسيد النيتروجين بدرجات مرتفعة.

 

وفي المقابل فإن الجانب الاقتصادي له علاقة أيضاً بحالة الهواء الجوي، فعلى سبيل المثال، فإن المقاطعة الاقتصادية والتجارية الدولية لإيران والتي أُقرت من مجلس الأمن عام 2006، أدت إلى انخفاض النمو الاقتصادي وبالتالي انخفاض تركيز أكاسيد النيتروجين فوق المدن الرئيسة كطهران واصفهان بنسبة نحو 4% سنوياً. كذلك فإن الأزمة المالية الخانقة التي عصفت باليونان منذ عام 2008  نجم عنها انخفاض كبير في أكاسيد النيتروجين بلغ قرابة 40%.

 

وفي الحقيقة فإنني وصلت إلى عدة استنتاجات عامة بعد تحليلي لهذه الدراسة، وهي كما يلي:

أولاً: الغرب يراقب عن قرب كل التغيرات التي تحدث في بيئتنا، فهذه الدراسة نشرت معلومات عن حالة الهواء فوق 16 مدينة منذ مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، منها القاهرة، دمشق، بغداد، حلب، بيروت، جدة، الرياض، المنامة، فهل دولنا تعلم بذلك؟

ثانياً: الوضع على الأرض ينعكس على السماء، فأي تغيرٍ في الحالة السياسية والأمنية والاقتصادية لها مردودات ايجابية أو سلبية على جودة الهواء الجوي.

ثالثاً: أي مردودات ايجابية تنجم عن الحروب لا تُقارن مهما كانت بالدمار الشامل الذي يقع بالبشر والحجر، فأسأل الله أن يُجنِبا الحروب ويديم عليننا أمننا واستقرارنا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق