الجمعة، 18 ديسمبر 2015

معاهدة باريس للتغير المناخي، هل هي طواعية أم إلزامية؟



منذ يونيو عام 1992 عندما انعقدت قمة الأرض، أو قمة البيئة والتنمية في مدينة ري ودي جانيرو في البرازيل، وتمخضت عنها الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وأنا أُراقب عن كثب أحوال التغير المناخي والقمم والمؤتمرات والاجتماعات التي تُعقد من أجل مكافحته والتصدي له، وأتابع جميع المتغيرات والمستجدات التي تطرأ على مواقف الدول لمواجهة التغيرات المناخية وتداعياتها البيئية والاقتصادية والسياسية والأمنية والصحية.

وفي الأيام الماضية انصبَ جُل اهتمامي نحو قمة باريس، وتوجهت أنظاري لأراقب الوضع يوماً بعد يوم، فانتظرت أسبوعين أُتابع عن بُعْد، وبكلٍ لهفةٍ وقلق المحادثات والمفاوضات التي تجريها الوفود حول البنود المختلفة المطروحة في جدول الأعمال، حتى وصلتُ إلى نقطة النهاية وهي يوم السبت 12 ديسمبر، وبالتحديد نحو الساعة السابعة والعشرين دقيقة مساءً بتوقيت باريس، حيث قام وزير الخارجية الفرنسي لورانت فابيوس ورئيس المؤتمر بِرَفع يديه فضرب بمطرقته الخضراء البيئية المـُصَممة خصيصاً لهذا اللقاء البيئي طاولة المنَصَة التي يجلس عليها كبار القوم والمسئولين عن قضية التغير المناخي على المستوى الدولي، وهم الرئيس الفرنسي هولند، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والسكرتيرة التنفيذية للاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وما أن نزل وزير الخارجية الفرنسي يديه حتى قام الجالسون على المنصة من مقاعدهم مصفقين ورافعين أيديهم، ووضعوها مع بعض رمزاً للتضامن وتحقيق النصر الكاسح والمبين، ولم تمض ثوانٍ إلا وبعدها قام الجالسون في قاعة المؤتمر وكافة الوفود المشاركة وهم يصفقون ويكبرون وكأنهم صدى الصوت للجالسين في المنصة، وبدأ كل واحدٍ منهم يهنئ الآخر مرحبين بما تمخضت عنها القمة، وأوهموا العالم بأنهم حققوا نصراً مؤزراً على تهديدات وانعكاسات التغير المناخي وارتفاع درجة حرارتها.  

وبعد هذا المشهد العاطفي الدرامي المثير، ننتقل فوراً إلى مشهد تصريحات رؤساء وقادة دول العالم المـُعلبة والجاهزة لهذه المناسبة، ونبدأ بزعيم العالم وقائد كوكبنا الرئيس الأمريكي أوباما الذي اعتبر هذه المعاهدة انجازاً شخصياً له وللدبلوماسية الأمريكية وقيادتها للعالم للوصول إلى هذه الاتفاقية، حيث وصف الاتفاقية بأنها: "أفضل فرصة لحماية كوكبنا الوحيد"، وأضاف قائلاً:"الاتفاقية ليست مثالية، فالمشكلات لن تُحل بسبب هذه الاتفاقية"، وردد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تصريحات رئيسه أوباما قائلاً:"هذا نصر كبير لجميع مواطنينا". وعلى نفس الأنغام واللحن غَنى باقي الزعماء الأوروبيين، حيث أكد الرئيس الفرنسي هولند قائلاً: "كانت هناك ثورات كثيرة في باريس خلال القرون، واليوم تُعد هذه الثورة الأجْمَلْ والأكثر سلمية..ثورة للتغير المناخي"، وقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون واصفاً الاتفاقية بأنها:"خطوة كبيرة للأمام لتأمين مستقبل كوكبنا". كما قال بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة بأن:"التاريخ سيتذكر هذا اليوم، فاتفاقية باريس تعداً نجاحاً لكوكبنا والإنسانية".

فهل ما توصلت إليها القمة من قرارات تستحق هذا المديح الكبير والإطراء التاريخي العظيم؟
فهل هذه البهجة والسرور العميقين من الوفود، والشعور بالنصر المبين والعظيم يعكس من أنجزتها القمة من تعهدات والتزامات دولية لحماية كوكبنا من داء التغير المناخي؟

وللإجابة عن هذا السؤال اطلعتُ على الوثيقة النهائية للقمة والمكونة من 31 صفحة، وهي وثيقة ملزمة في عمومها للمشاركين والدول الأعضاء في الاتفاقية، ولكن هناك بنوداً "طوعية" لا تُلزم الدول قانونياً التعهد بتنفيذها، وهذه البنود هي الحساسة التي لها انعكاسات على اقتصاد الدول، وأمنها، واستدامة برامجها التنموية، وهي في الحقيقة البنود الرئيسة التي لها الدور الفاعل في حدوث التغير المناخي، وهي تُعد من العوامل الأساسية المؤثرة في سخونة الأرض. فعلى سبيل المثال، الاتفاقية لا تُلزم الدول بوضع حدودٍ معينة لانبعاثاتها من غازات الدفيئة المـُسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض، ولا تحاسبها قانونياً إذا لم تلتزم بخفض انبعاثاتها بنسبٍ معينة سنوياً، أي أن هذا البند متروك للدول حسب ظروفها وإمكاناتها وقدراتها. وفي الجانب الآخر فهناك الجانب المالي الذي يُطرح في كل اتفاقية ولا يرى النور عند التنفيذ، ويتمثل في تخصيص مبالغ مالية سنوياً من الدول الصناعية الغنية المسئولة عن وقوع التغير المناخي لصرفها على الدول النامية والفقيرة التي تضررت كثيراً من هذه الظاهرة وتستخدمها في التكيف والتأقلم مع مردودات التغير المناخي وشراء تقنيات حديثة لخفض انبعاثاتها، فعلى الدول الغنية والثرية بصفةٍ "طوعية" دفع مائة بليون دولار سنوياً بحلول عام 2020.   

ولذلك لا أرى شخصياً بأن هذه الاتفاقية تستحق هذا الابتهاج والفرح والسرور من المشاركين ورفع رايات النصر على تداعيات التغير المناخي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق