الخميس، 3 ديسمبر 2015

بَلَدْ الضباب القاتل



في هذه الأيام، ومع حلول أيام الشتاء الباردة، والأجواء القارسة، والطقس الشديد البرودة والمتمثل في درجات الحرارة المنخفضة، ينزل الضباب يومياً في لندن، بلد الضباب، حتى إذا أخرج الإنسان يَدَهُ لم يَكَد يراها من كثافة هذا الضباب وكان يَضِلُ طريقه وهو يمشي في وسط هذا الضباب، وهذا الضباب طبيعي لا يشكل خطورة وتهديداً حقيقياً على صحة الناس، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الثقافة البريطانية اللندنية، ومظهراً فريداً يشاهده كل زائر للعاصمة البريطانية.

ولكن هل هذا الضباب الذي ينزل الآن على لندن طبيعي وسليم لصحة الإنسان، كما كان قبل أكثر من مائة عام؟

في الحقيقة أن هناك اليوم نوعين من الضباب يشاهدهما الإنسان، الأول هو الضباب القديم الطبيعي المعروف تاريخياً لدى البشر منذ الأزل، ويُعتبر من مشاهد ومظاهر فصل الشتاء والظروف المناخية شديدة البرودة، والثاني فهو ضباب حديث ومستجد من صُنع البشر ويتكون نتيجة لأنشطته التنموية التي لم تنقطع منذ الثورة الصناعية الأولى، ولذلك لم يكن يشاهده الإنسان في المدن قبل أكثر من سبعين عاماً، وهذا الضباب يقتصر عادة على فصول الصيف الحارة وعند بزوغ أضواء الشمس الساطعة والملتهبة، ويُطلق عليه بالضباب الضوئي الكيميائي.

فهذا النوع الأول الطبيعي النقي والصافي من الضباب الشتوي لم يعد الآن على نقاوته وصفائه وخلوه من الأضرار، وإنما أصبح مشبعاً بشتى أنواع السموم القاتلة والمـُـهددة لصحة البشر والحجر والأنعام وبالتحديد الدخان الأسود وأكاسيد الكبريت، فالمصانع تعمل ليلاً نهاراً وعلى مدار الساعة، ومحطات توليد الكهرباء تشتغل بدون توقف طوال أيام السنة، ووسائل النقل من سيارات وقطارات وطائرات لا تأخذها سِنةٌ ولا نوم، فتعمل في شوارعنا وسمائنا وتحت أرضنا في كل ثانية من اليوم والليلة وطوال العام، وكل هذه المصادر تَبْعث بملوثاتها إلى الهواء الجوي فتختلط بالضباب الذي ينزل علينا لا برداً ولا سلاما، فيُصيبنا بشتى أنواع الأمراض المزمنة من أمراض الجهاز التنفسي، والقلب، وأمراض السرطان.

وهذا النوع الشتوي أيضاً لم يَعُد حِكراً على لندن، بلد الضباب، أو ظاهرة بيئية منعزلة لا تشاهد إلا في العاصمة البريطانية، وإنما بلغت العدوى الكثير من مدن العالم العريقة، وأشهرها مدن الصين كالعاصمة بكين ومدينة شنغهاي، حتى أن الحالة في بكين أصبحت متجذرة في سماء العاصمة وتحولت إلى وضعٍ لا يطاق ولا يمكن أن يتحمله جسم أي بشر، مما أدى إلى تعالي صيحات الشعب وغضبهم من جهة والمسئولين من جهةٍ أخرى، حيث قال عُمدة بكين بصريح العِبارة: "الهواء في المدينة غير صالحٍ للحياة"، وأما في لندن فقد أعلن العلماء أن الشارع المشهور الذي يسير في قلب لندن النابض بالحياة وهو "أكسفورد ستريت"، يُعد من أكثر المناطق تلوثاً ليس على مستوى لندن فحسب، وإنما على مستوى دول العالم، حيث حطمت نسبة الملوثات في الهواء كافة الأرقام القياسية المتعلقة بتركيزها في الهواء الجوي، ولمن يريد أن يشفي غليله للمزيد من المعلومات، يمكنه الرجوع إلى الكتاب الذي نُشر في 19 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "ضباب لندن".

وأما النوع الثاني فهو أكثر خطورة من النوع الأول وأشد وطأة على صحة الإنسان والكائنات الحية ومواد البناء والمرافق الأثرية القديمة، وهذه النوع يكشف عن أنيابه الحادة والقوية في فصل الصيف خاصة عندما تشتد حرارة الشمس ويرتفع القيظ فتعمل أشعة الشمس الحارقة كعامل مساعد يعمل على تعزيز ودعم تفاعل بعض الملوثات التي تنبعث من وسائل النقل، مثل أكاسيد النيتروجين والهيدروكربونات، وينجم عنه خليط معقد وقاتل من الملوثات الأخرى السامة والخطرة وعلى رأسها غاز الأوزون الذي له القدرة الذاتية على تهديد صحة الإنسان والحجر والشجر، وينكشف هذا التفاعل ويظهر على هيئة ضباب أصفر بني اللون لا يخفى على أحد، ويراه كل إنسان يعيش في المدن الحضرية المكتظة بالسيارات والمزدحمة بوسائل النقل الأخرى.

وأما النسبة للبحرين ودول الخليج الأخرى والمدن التي تشتد فيها حرارة الشمس، فإن النوع الثاني هو الأخطر والأكثر تهديداً لصحتنا ويجب الحذر منه، ومؤشرات انكشاف هذا النوع واضحة في سمائنا في بعض الأوقات من السنة، فالوقاية منه يجب أن يحظى بالأولوية ليس من الوزارات المعنية بالبيئة فحسب، وإنما يجب أن يكون في مقدمة الأولويات بالنسبة للأجهزة المختصة بحماية صحة الإنسان على حدٍّ سواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق