الأحد، 17 يناير 2016

إعلان الطوارئ في أمريكا بسبب التلوث


اضطر حاكم ولاية مشيجان الأمريكية ريك سنايدر(Rick Snyder) في الخامس من يناير من العام الجاري إلى إعلان حالة الطوارئ في الولاية، ولم يُعلن حالة الطوارئ القصوى هذه لعاصفة ثلجية شديدة البرودة ضربت الولاية، وليست من أجل ريحٍ صَرصَرٍ عاتية تهلك من يقف أمامها من إنسانٍ وشجرٍ وحجر، ولم يكن بسبب إعصارٍ وطوفانٍ وأمطارٍ غزيرة مدمرة نزلت عليهم فأهلكت الحرث والنسل وأغرقت البلاد والعباد، فكل هذه الكوارث الطبيعية التي تنزل على الدول عادةً لم تكن السبب في إعلان حالة الطوارئ، فالسبب كان وبكل بساطة هو انتشار ملوثٍ قاتل، وسمٍ خطيرٍ في جميع شرايين المدينة، حتى أصبح هذا السم القاتل يجري في أعضاء أجسام الناس، الصغير منهم والكبير، الطفل والشيخ،كما يجري الدم في عروق الإنسان وفي كل خليةٍ من خلايا جسمه.

 

فما حدث وبكل بساطة أن مقاطعة جينيسي(Genesse county)، وهي إحدى مقاطعات ولاية ميشيجان وعاصمتها فلينت(Flint) التي تبعد نحو مائة كيلومتر من ديترويت، عاصمة صناعة السيارات في أمريكا، قد ضاقت بها سبل الحياة، وشحت ثرواتها ومواردها، وخنقت الديون رقبتها، فاضطرت إلى  إعلان إفلاسها، فركِبَت عليها الأجهزة والمعدات الطبية للتأكد فقط من استمرارية دق نبضات القلب وإبقائها على الحياة أطول فترة ممكنة من الزمن، ووُضعت تحت إدارة الطوارئ الجبرية، كما يفعل البنك الدولي في الدول التي أرهقتها الديون، أو التي تعاني من ضائقة اقتصادية وشح في النقد المالي فتلزمها برفع كافة أنواع الدعم عن الشعب، وترشيد النفقات، وخفض المصروفات، واتخاذ إجراءات تقشفية صارمة، وربط الحزام في كل مرافق الدولة.

 

فمدينة فلينت شرعت في تنفيذ سياسة التقشف، وبدأت في التفكير في كل الوسائل والسبل لترشيد الاستهلاك، وتوفير المال العام، وخفض المصروفات في جميع القطاعات، ولكنها لم تبدأ خططها، كما فعلنا في البحرين برفع الدعم عن اللحم وجازولين السيارات، وإنما خفضت النفقات في أهم وأغلى مورد يحتاج إليه الإنسان ولا يستطيع الاستغناء عنه كلياً يوماً واحداً، إذ لا حياة بدونه، فارتكبت خطأً فادحاً ومميتاً لا يغتفر، فقامت في أبريل 2014  من أجل ترشيد المصروفات، وتوفير مبلغٍ زهيد من المال في الحصول على مصدرٍ أرخص لمياه الشرب لسكان المدينة والمقاطعة برمتها، وهو سحب الماء من نهر فلينت مباشرة والذي يجري في قلب المدينة، ثم نقله وتوزيعه على منازل الناس. 

 

ولكن هذا المصدر المائي الأرخص ثمناً والأشد تلوثاً، هو الذي أوقع البلاء العظيم على المدينة، وأنزل كارثة بيئية وصحية وأمنية أَلزمت حاكم الولاية ولأول مرة في تاريخها إلى إعلان حالة الطوارئ البيئية والصحية في الولاية، بل وإن هذا الإجراء التقشفي الذي كان لأول وهلة يظهر وكأنه يوفر المال على المدينة ويقلل من النفقات، كَلَّف الولاية مبالغ باهظة أكبر بكثير من المبلغ الذي تم توفيره، وأدى إلى تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار بسبب الانعكاسات البيئية والصحية التي نجمت عن هذا الإجراء التقشفي غير المدروس.

 

فمنذ أن تم تحويل مصدر مياه الشرب في المقاطعة، والسكان يشتكون من سوء نوعية المياه التي تصل إلى منازلهم من حيث الرائحة العفنة، واللون العكر غير الطبيعي، والطعم الغريب والرديء، ومع الزمن ارتفعت وتيرة الاحتجاجات، وزاد احتقان الناس، وارتفعت أصواتهم، ووصلت هذه الشكاوى ذروتها عندما اكتشف أحد العلماء وجود ملوثٍ خطير يهدد صحة الناس في هذه المياه وهو الرصاص، ثم ضج الناس أكثر، وخرجوا في مظاهرات عارمة غطت شوارع المدينة كلها عندما تأكد الناس أن هذا الرصاص الموجود في المياه قد دخل في أجسام أطفالهم وفلذات أكبادهم وتشبعت دماؤهم بهذا السم القاتل بنسبٍ مخيفة يَرتعد لها جلد الإنسان، ويقشعر شَعْرُه خوفاً وفزعاً.

 

وعندما وصلت الكارثة إلى هذه المرحلة الأمنية والصحية الخطرة، تدخل حاكم الولاية ليُعلن حالة الطوارئ في الولاية، ولكن لم تقف هذه القضية عند هذا الحد، وفي حدود الولاية نفسها، وإنما بلغت هذه الأنباء السيئة أسماع البيت الأبيض، والذي فتح بدوره وعلى الفور تحقيقاً اتحادياً لسبر غور هذه الكارثة والتعرف على أبعادها وملابساتها، وأرسل مندوبين لدراسة الوضع عن قرب ومعرفة حجم الضرر الذي نزل على البيئة وعلى الناس، كما صرح رئيس الموظفين في البيت الأبيض دينيس ماك دونيف(Denis McDonough) في العاشر من يناير في المؤتمر الصحفي الذي عقد لهذه الكارثة بأنه "يراقب الوضع عن قرب"، وفي الوقت نفسه هرعت جميع وسائل الإعلام الكبرى لتغطية الكارثة، ودخل رجال السياسة على الخط ومنهم هيليري كلينتون التي أكدت بأنها ستزور هذه المدينة المنكوبة.

 

والآن يبقى سكان المدينة بدون ماءٍ صحي يُعينهم على الحياة، مما اضطر حاكم الولاية مرة ثانية إلى الدعوة للنفير العام في 15 يناير، فاستدعى الشرطة ورجال الحرس الوطني للولاية والجمعيات الأهلية لتوزيع المياه المعلبة ومرشحات الماء على البيوت، وطَرْق الأبواب بيتاً بيتاً لأكثر من مائة ألف مواطن، كما دعا المواطنين إلى التوجه إلى مواقع توزيع المياه، مثل الكنائس، والمطافئ، ومحطات المحروقات. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق