السبت، 30 يناير 2016

تَسْمِيمْ مدينة أمريكية


عنوانُ مقالي اليوم هو عنوان المقال الرئيس نفسه، والموجود على صفحة الغلاف في مجلة التايمز الأمريكية في العدد الصادر في 21 يناير 2016، وهذا العنوان هو جزء من عنوانٍ طويل للمقال وهو: "تَسْمِيم مدينة أمريكية، مياه سامة، أطفال مرضى، وقادة عاجزون خانوا مدينة فلينت بولاية مشيجان".

 

موضوع هذا المقال الذي شغل مساحةً كبيرة من مجلة التايمز المرموقة والواسعة الانتشار حول العالم وصحف كثيرة أخرى، واهتمت به المجلة، وسلطت عليه الأضواء بوضعه في واجهة المجلة وعلى صدر صفحة الغلاف، قد كَتَبتُ عنه مؤخراً، ونَشرتُ مقالين يتناولان هذه الكارثة التي أَضَّرتْ وهددت صحة الإنسان وبيئته، فالمقال الأول جاء تحت عنوان: "إعلان حالة الطوارئ في أمريكا بسبب التلوث" ونُشر في 18 يناير، والثاني عنوانه: "سياسة التقشف ووقوع كارثة بيئية صحية"، ونُشر في العشرين من يناير من العام الجاري.

 

واليوم أَضْطُر مرة ثالثة لمناقشة هذه الكارثة التي شغلت بال أمريكا وأَعلن أوباما حالة الطوارئ بسببها، وذلك لانكشاف أبعادٍ جديدة خطرة، وظهور جوانب خفية لم تكن في الحسبان، كما أَوَد في الوقت نفسه أن أُبين العلاقة والترابط بين هذه الكارثة التي وقعت في إحدى مدن أمريكا وبين حالنا في البحرين ودول الخليج عامة، وذلك من أجل تجنب الوقوع فيها، فالإنسان يجب أن يتعظ بالتاريخ قبل أن يكون هو نفسه عِبرة وعظة للتاريخ.

 

فعندما بدأتُ القراءة عن هذه الحادثة، وشَرعت في الكتابة عنها، كُنت أظن بأنها وقعت في واحدة من الدول النامية، أو دول العالم الثالث الفقيرة والمستضعفة التي لا تتمتع مجتمعاتها بكفاءاتٍ عالية، وخبراتٍ بشرية متطورة ومتنوعة، وتفتقر إلى الأجهزة والمعدات المتقدمة، والتقانات العالية الحديثة، ولا تُفَعَّل فيها القوانين والأنظمة الصحية والبيئية، فتسود العشوائية والاجتهادات الفردية، والتخبط في العمل والتنفيذ، ولكن وقوع مثل هذا الكَرْبْ العظيم في أكبر دولةٍ على وجه الأرض وأغناها وأكثرها ثراءٌ دون منازع، وأشدها تقدماً وتطوراً من الناحية العلمية والفنية والثروات البشرية، فهذا أمر عَجَبْ، وبحاجةٍ إلى وقفةِ تأملٍ وتَدَبر، وأخذ العبر والعظات منها.

 

فهذه الكارثة وقعت لسببٍ رئيس واحد، وهو تطبيق إجراءات التقشف "الأحادية الجانب"، أي تنفيذ ترشيد الإنفاق والاستهلاك، وخفض المصروفات وتوفير المال، دون الأخذ في الاعتبار انعكاسات هذا الإجراء وتأثيراته على الجوانب الحيوية الأخرى، سواء أكانت الجانب البيئي، أو الصحي، أو الاجتماعي، أو السياسي والأمني. فولاية مشيجان، وبعض المدن في الولاية، تعاني من تدهورٍ اقتصادي مُدقع، وأزمة مالية خانقة منذ سنوات، فلذلك أعلنت ديترويت مدينة صناعة السيارات الإفلاس، وعُيِّن عليها ما يُطلق عليه "مدير للطوارئ"،وفي دُولنا المستضعفة في مثل هذه الحالات، وليس في أمريكا طبعاً، يتدخل البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة المالية فتفرض علينا قيوداً وشروطاً وإجراءاتٍ محددة تَصُب كلها في "رفع" الدعم الشعبي عن كل منتجٍ استهلاكي، والعمل على خفض المصروفات وتوفير المال. وهذا ما حدث بالفعل في مدينة فلينت(Flint) التي تبعد نحو مائة كيلومترٍ من ديترويت، وعدد سكانها قرابة مائة ألف معظمهم من أصول أفريقية من الفقراء وغير المتعلمين الذين لا يعرفون حقوقهم، وليس لديهم المال للدفاع عن هذه الحقوق، وليس لهم أي وزنٍ سياسي يحسب له، ولذلك من السهل تنفيذ أي إجراءٍ "تقشفي" عليهم، فقام "مدير الطوارئ" وعُمدة المدينة في 25 أبريل 2014 من أجل "التقشف" وتوفير المال بتحويل مصدرِ مياه الشرب لسكان المدينة من ديترويت البعيدة عنها إلى المصدر الأرخص ثمناً، وهو نهر فلينت الذي يجري في قلب المدينة، دون الأخذ في الاعتبار جودة هذه المياه ونوعيتها وتأثيراتها الصحية والبيئية على سكان المدينة.

 

ومع الوقت تبين أن هذه المياه التي دخلت كل منزل وشربها يومياً ولعامين أكثر من مائة ألف إنسان أنها ملوثة ومسمومة، فرائحتها عفنة، ولونها برتقالي مائل إلى الصفرة، وطعمها غير مستساغ، بل وأكدت الدراسات المخبرية أن هذا الماء ملوث بعنصر الرصاص، وأن الكثير من أطفال المدينة تشبعت دماؤهم وأجسامهم بهذا الملوث الخطير وتراكمت في عظامهم. وبالرغم من هذه التحذيرات الأولوية وبُروز شكاوى الناس، إلا أن قادة المدينة والولاية تجاهلوا هذه الشكاوى وأهملوا احتجاجات الناس المتكررة حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبي وتحولت هذه الكارثة الصحية البيئية إلى أزمةٍ سياسية وأمنية ثقيلة تخطت الحدود الجغرافية لهذه المدينة الصغيرة فشملت كل الولايات المتحدة الأمريكية، وتدخل فيها البيت الأبيض فخَصص فوراً مبلغاً مالياً وقدره خمسة ملايين دولار من "الصندوق الاتحادي للكوارث الطبيعية"، كما اعتذر حاكم ولاية مشيجان قائلاً:" أنا آسف"، والآن هذه المدينة تحولت إلى إحدى مدن العالم الثالث، أو مخيمات اللاجئين التي تَصِلها المياه عبر صهاريج وشاحنات النقل، أو تصلها يدوياً قناني المياه البلاستيكية فتوزع عليهم بيتاً بيتاً وفرداً فردا.

 

وهذه الكارثة أدخلت بُعداً جديداً غير البعدين الصحي والبيئي، وأحْيت إلى الذاكرة قضية قديمة تعاني منها أمريكا وهي "العنصرية"، ولكن اليوم هي عنصرية من نوعٍ خاص وهو "العنصرية البيئية"، بحيث إن  القس جيسي جاكسون(Jesse Jackson) المرشح الأسبق للرآسة في أمريكا أَطلق على المدينة "موقع الجريمة"، أي جريمة "العنصرية البيئية"، وتساءل هذا القس والكثيرين من المفكرين الأمريكيين أن هذه الكارثة لو كانت في مدينة غنية وسكانها من المتعلمين البيض، ومن الأثرياء فهل سيتم تجاهلها وغض الطرف عنها أكثر من عام؟ كما كتب المخرج المشهور مايكل مور(Michael Moore) مقالاً سيُنشر في مجلة التايمز في الأول من فبراير تحت عنوان:" تَسَمُم مدينة فلينت يُعد جريمة عنصرية".

 

وبالتالي نرى أمامنا بأن هذا الإجراء التقشفي البسيط الذي اتخذته المدينة من أجل توفير المال، كلفها أضعاف المبلغ الذي تم توفيره، وكشف أبعاداً خطيرة لم تكن في الحسبان، فاعتبروا يا أولي الألباب.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق