الثلاثاء، 19 يناير 2016

سياسة التقشف ووقوع كارثة بيئية صحية


ما أن انتهيتُ من نَشر مقالي تحت عنوان: “إعلان الطوارئ في أمريكا بسبب التلوث" في 18 يناير والمتعلق بإعلان حاكم ولاية مشيجان لحالة الطوارئ البيئية الصحية في الولاية، وإذا بوسائل الإعلام الأمريكية الرئيسة تَنشر خبراً في صفحاتها الأولى في 17 من الشهر الجاري تحت عنوان: "أوباما يُعلن حالة الطوارئ"، أي أن القضية تحولت من حدود الولاية الواحدة الضيقة، وهي مشيجان، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويتلخص هذا الخبر في موافقة الرئيس الأمريكي أوباما على استخدم الصندوق الاتحادي المخصص فقط للحالات الطارئة والكوارث الطبيعية في تمويل ومساعدة ولاية مشيجان على مواجهة هذه الكارثة التي نزلت عليها، حيث صرح مسئول في البيت الأبيض قائلاً: "أَمَرَ الرئيس بمساعدة اتحادية لدعم وتمويل جهود ولاية مشيجان والسلطات المحلية في المدن والبلديات بسبب الحالة الطارئة في المنطقة التي تأثرت وتضررت بالمياه الملوثة، ومن أجل تخفيف معاناة السكان وحالتهم الصعبة"، وقد كَلَّف الرئيس الوكالة الاتحادية لإدارة الطوارئ للتنسيق في جهود المساعدة وتخصيص خمسة ملايين دولار لهذه العملية، إضافة إلى توفير المياه الصالحة للشرب، ومرشحات تنظيف الماء من الشوائب والغبار والجسيمات الدقيقة.

 

فهذه الكارثة والطامة الكبرى التي أَلـمــَّتْ بالسكان في ولاية مشيجان، وبالتحديد مقاطعة جينيسي(Genesse county)، وهي إحدى مقاطعات ولاية مشيجان وعاصمتها فلينت(Flint) التي تقع في قلب الولاية وتبعد نحو مائة كيلومترٍ من ديترويت، لو كانت انعكاساتها بسيطة وعابرة، ومردوداتها قليلة وهامشية، لما اسْتَدعت تدخل الرئيس الأمريكي نفسه، ولما كانت هناك حاجة لإعلان الطوارئ على مستوى البيت الأبيض وتكليف الوكالة الاتحادية لإدارة الطوارئ وصندوق الطوارئ للمساعدة ودعم جهود الإغاثة التي عجزت الولاية نفسها وبإمكاناتها السيطرة على هذه الكارثة ومكافحتها.

 

ولو تعمقنا قليلاً في أسباب تعرض سكان مشيجان لهذه النكبة البيئية الصحية لوجدنا أنها وقعت نتيجة لقرارٍ خاطئ اتخذته السلطات المعنية في الولاية من أجل توفير مبلغٍ زهيدٍ من المال ليتماشى مع سياسة التقشف، وخفض النفقات، وتقليل المصروفات في كل قطاعات الولاية التي ضربتها أزمة مالية حادة، ووضع اقتصادي متدهور، فتراكمت الديون على ظهرها وزادت يوماً بعد يوم، وجعلتها أخيراً تقع في هاوية الإفلاس.

 

فمن الإجراءات "التقشفية" المتعجلة التي اضطرت الولاية إلى تبنيها هي مياه الشرب التي تصل إلى منازل سكان الولاية، فقامت بتغيير مصدر المياه القادمة إلى مدينة فلينت وما حولها من مدينة ديترويت، وبالتحديد من بحيرة هرون(Lake Huron) إلى الاستخدام المباشر لماء النهر الملوث الذي يمر في قلب المدينة، دون التفكير مَلياً في العواقب البيئية والصحية المترتبة على هذه الخطوة.

 

فماء النهر لم يكن صالحاً للشرب والاستهلاك الآدمي بشكلٍ مباشر مما أدى إلى احتجاج الناس وتذمرهم من هذا الماء الملوث الذي يصل إلى منازلهم وخروجهم في مظاهرات غاضبة، فرائحة الماء عفنة، ولونه عكر وغير صافي، ومذاقه غير مقبول ورديء، ولكن الجهات المعنية كالعادة تجاهلت هذه الصرخات والشكاوى، حتى بلغت الكارثة ذروتها عندما نُشرت تقارير تؤكد وجود العديد من الملوثات السامة والخطرة في المياه التي يشربها السكان، ومن أخطر هذه السموم هو الرصاص المعروف بتأثيراته المباشرة على أعضاء جسم الإنسان وبالتحديد المخ وإضراره بمستوى الذكاء عند الأطفال، حيث أكدت التحاليل التي أُجريت على أطفال المدينة أن نسبة الرصاص في دمائهم مرتفعة جداً إلى درجة تُنذر بوقوع وباءٍ صحي عام على جميع السكان، من أطفال وشيوخ.

 

فهذه النتائج العلمية الميدانية أكدت أنه نتيجةً لسياسة التقشف غير الرشيدة والتسرع في اتخاذ القرار من أجل توفير المال فقط والأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي على حساب الجوانب الأخرى الحيوية، الصحية، والبيئية، والاجتماعية، والسياسية، فقد وَقع هذا الدمار العميق، والفساد المباشر على صحة الناس وصحة البيئة على حدٍ سواء، فقد سَمحْنا بأيدينا وبرضانا التام لانتشار السموم القاتلة للبشر في أعضاء جسم البيئة أولاً، ثم انتقلت مع الوقت إلى كل خليةٍ من خلايا أجسامنا، فتراكمت فيها واستقرت بداخلها، ولا يمكن الآن التخلص منها، مهما فعلنا وبذلنا من جهود، وصرفنا من الأموال.

 

ودعوني أُلخص لكم أهم تداعيات هذا القرار التقشفي الذي كان يهدف إلى توفير المال فقط:

أولاً: اضطرار حاكم الولاية إلى إعلان الطوارئ، ثم مَدْ يد العون إلى الصندوق الاتحادي لمساعدته مالياً على تجاوز هذه الكارثة.

ثانياً: أَكَّد حاكم الولاية على الحاجة الماسة العاجلة إلى مبلغ وقدره 96 مليون دولار لمواجهة هذه الطامة على المدى القريب والبعيد، علماً بأن المبلغ الذي تم توفيره من إجراء التقشف في تغيير مصدر الماء لا يقارن بتاتاً بهذا المبلغ الكبير!

ثالثاً: إعلان النفير العام في الولاية، واستدعاء الحرس الوطني للولاية وكافة أفراد الشرطة وأعدادٍ مهولة من المتطوعين لتوزيع قناني مياه الشرب والمرشحات على كل السكان، بيتاً بيتاً، وفرداً فرداً لمدة تسعين يوماً.

رابعاً: انتشار التلوث في البيئة وجريانه في شرايين جسم السكان، وتعريضهم لوباءٍ عام لا يمكن توقع الأمراض التي ستنزل عليهم حالياً ومستقبلاً.

خامساً: إجراء التقشف والترشيد لم يأخذ في الاعتبار إلا الجانب الاقتصادي، وأَغْفل وتجاهل كلياً الأبعاد والجوانب الأخرى، ولذلك التداعيات كانت شديدة، وأولها كانت على الجانب الاقتصادي نفسه!

 

ونظراً لفظاعة هذه الكارثة، فإنني أدعو الجميع إلى الوقوف برهة أمامها والاستفادة من هفواتها، والتعلم من زلاتها، حتى لا نقع فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق