الثلاثاء، 17 يناير 2017

هل هذا هو النَّمُوذَج التنموي الذي نريده في البحرين؟


 
إذا غَرسنا بذور أي شجرةٍ في الأرض مهما كان نوعها، فإن هذه البذور عندما ترويها وتسقيها بالماء عذباً فراتاً كان أم ملحاً أجاجاً فإنها حتماً ستنمو وتكبر وتؤتي ثمارها وأكلها، ولكن الثمرة ونوعها وطعمها يكون حسب نوع البذرة والنبتة، فقد يكون الثمر حلواً سائغاً طيب الطعم والمذاق، أو يكون مُراً قاسياً عَلْقَماً، رديء المذاق، خشن الملمس كالحنظل الذي يضرب به الأمثال.
 
والعمليات التنموية في أي بلد هي كالبذرة والنبتة التي تغرسها الدولة في التربة، فيعتمد نوع ثمرها، وجودة حَصادِها وفائدتها على نوع النبات المزروع، أي نوع ونمط التنمية الذي تتبعه هذه الدولة. فإذا كانت التنمية أحادية الجانب وتعتمد فقط على تحقيق النمو الاقتصادي السريع، فإن الثمرة ستكون خبيثة ورديئة وغير ناضجة، وسيكون الحصاد غير صالحٍ بل وضار، وعلى المدى البعيد ستفشل ولا يمكن الاستمرار فيها، ولكن إذا كانت التنمية شاملة تأخذ في الاعتبار تحقيق التنمية الاجتماعية والبيئية إلى جانب التنمية الاقتصادية، فإن الثمرة ستكون صالحة وطيبة وينتفع الجميع من هذا الحصاد الطيب، وبالتالي ستكون تنمية مستدامة عامرة للبلاد والعباد.
 
فالصين التي هي مضرب الأمثال للكثيرين في تحقيق معجزة النمو الاقتصادي، قد تبنت النموذج المعَوق للنمو، فزرعت بذرة خبيثة وجنت ثمرتها، ولكنها ثمرة غير مكتملة النمو، والحصاد غير صالحٍ للجميع، فها هي الآن تعُض أصابع الندم، ويعلو صراخها، ويرتفع أنينها، وتتفاقم معاناتها من هذه الثمرة التي جنتها بيديها، وتتجرع يومياً مرارتها ولا تدري كيف تتخلص منها الآن.
 
فالصين اليوم ولأول مرة في تاريخها تعلن الحرب، ولكن ليس على عدوٍ تقليدي يعرفه الجميع، ولكنه على هذه الثمرة الخبيثة التي قطفتها بنفسها من هذه التنمية، فأعلنتْ في عام 2014 الحرب على "التلوث"، وفي الوقت نفسه أعلنت أرفع درجات حالات الطوارئ (التحذير الأحمر)، وبخاصة من تلوث الهواء والضباب القاتل المشبع بالسموم والذي ينزل ضيفاً ثقيلاً دائماً على الكثير من المدن الصينية وعلى صدور الناس، ولا ينقشع هذا الضيف إلا بعد أن يُسقط الضحايا البشرية بين جريحٍ وقتيل، ويشل عجلة الإنتاج، وتتوقف التنمية كلياً.
 
ودعوني أُقدم لكم مشاهد تقع بشكلٍ دوري مستمر في مدن الصين، ويخلفه وراءه هذا الضيف المرعب عندما ينزل على البلاد. وأضرب لكم على سبيل المثال فقط ما وقع في مدينة تيانجن(Tianjin) و 32 مدينة صينية من مدن شمال الصين في الأسبوع الأول من يناير من العام الجاري، فقد تم إلغاء 154 رحلة طيران في مطار تيانجن بنهاي الدولي حيث شُلت حركة المواصلات العامة جميعها وتوقفت عن العمل من الطائرات، والقطارات، ومعظم حافلات النقل العام، وتم إغلاق الكثير من الشوارع بسبب الضباب الذي غطى مساحة قُدِّرت بنحو 150 ألف كيلومتر مربع، فأدى إلى انعدام الرؤية لدرجةٍ شديدة بحيث أنك إذا أخرجت يَدَكَ لم تكد تراها، فأغلقت المدارس أبوابها حماية لصحة الأطفال، وتوقفت آلاف المصانع والورش الكبرى عن العمل لخفض انبعاث الملوثات، كما أُجبر الناس إلى المكوث في منازلهم خوفاً من التعرض للسموم القاتلة، ومَنْ منهم اضطر للخروج فقد حمى نفسه بالكمامات الواقية التي توضع على الأنف والفم، وقد بلغ الأمر ذروته حتى أن عملية الشواء في المتنزهات والحدائق والأماكن العامة تم حظرها، بل وتغريم كل من يقوم بذلك. ونتيجة لهذه الحالة العقيمة، اكتظت المستشفيات بالمرضى وسقط الناس صرعى، وكأن قنبلة قد تفجرت في أنحاء المدينة.
 
فهذه الحالة الكارثية والمشاهد العصيبة التي وصفتُها لكم أصبحت الآن شديدة التكرار في مدن الصين العريقة ومنذ أكثر من عشر سنوات، فلا يمر شهر إلا وهذه الحالة تنزل على مدن الصين، مما أدى بدرجةٍ مشهودة إلى تدني مستوى النمو في الصين عن العقود الماضية، وبطء عجلة التنمية، وخسائر اقتصادية بالغة لا يمكن تقديرها، فعلى سبيل المثال، ستنفق الصين في هذا العام فقط 2.7 بليون دولار أمريكي لمكافحة تلوث الهواء، حسب التصريحات الرسمية المنشورة في 14 يناير من العام الجاري.
 
فالصين الآن تحصد ثمرة البذرة الخبيثة التي غرستها ورعتها وسقتها سنواتٍ طويلة فأتت أكلها خبيثة غير طيبة ولا يمكن أن تنعكس منافعها على الجميع فيستمر البناء والعطاء، مما اضطر الصين إلى تغيير نمط التنمية وإدخال الجوانب المتعلقة بحماية البيئة كركيزة قوية تقف عليها عجلة التنمية وتُدعم وتُثبت قواعدها فتعطي حصاداً نافعاً طيباً مستداماً يحقق الرفاهية والأمن للجميع.
 
ولذلك ألا يكفي هذا الدرس الصيني الذي نراه أمامنا حُجةً لنا في البحرين لنتجنب نموذجهم في التنمية؟
وألا يكفي ما وقع في الصين من كوارث بيئية وصحية وبشرية وتدهور اقتصادي ملموس مبرراً لنا لكي لا نتبع سَنَنَ الصين في العملية التنموية المعوقة وغير المستدامة؟


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق