الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

حتى المواصفات الصحية البيئية يتم تسْييسُها!


نعيش اليوم في عالمٍ مُسيَّس، فالرياضة يتم تسييسها لتحقيق أهدافٍ شخصية أو حزبية، والثقافة مسيسة لتصب في مصلحة أفرادٍ أو جماعاتٍ أو دول، والقرارات في كل المحافل تُتخذ بطابعٍ سياسي بحت، حتى القضايا التي تهم أمننا البيئي والصحي والمتعلقة بضمان استدامة حياتنا وسلامة بقائنا على وجه الأرض أصبحت الآن مسيسة وتصب أولاً في الوصول إلى مآرب آنية واقتصادية للتنظيمات السياسية قبل أن تصب في حماية صحة البشر والحفاظ على الثروات والموارد الفطرية الطبيعية الحية وغير الحية من ماءٍ وهواءٍ وتربة.

 

ولذلك فمُتخذ القرار على كافة المستويات وفي معظم دول العالم يصب جُل اهتمامه وتفكيره عند اتخاذ أي قرار في أية قضيةٍ مهما كان نوعها على المصالح الآنية الضيقة وتحقيق أطماعه الشخصية الذاتية لنفسه أولاً، ثم لحزبه أو تنظيمه ثانياً، وأخيراً للجهات والمؤسسات الداعمة والمساندة له معنوياً أو مادياً، فمعيار اتخاذ القرار عندهم لا يسعى لتحقيق المصالح العامة العليا السامية المشتركة التي تهم كل الناس، كرعاية شؤون الإنسان عامة وحماية الموارد الطبيعية المشتركة التي نحن مُؤتمنين عليها وعلى الحفاظ على سلامتها نوعياً وكمياً لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا.

 

ولذلك نُشاهد أمامنا وقائع ودلائل قاطعة تؤكد انتشار هذه الظاهرة في معظم دول العالم، فرجال العلم يكتشفون المشكلات التي نعاني منها ويؤكدون وقوعها بما لا يدع مجالاً للشك، ويُجمعون في مؤتمراتهم ومنتدياتهم العلمية على وقوعها وآثارها السلبية على الإنسان، ولكن عندما تنتقل هذه المشكلة إلى متخذي القرار ورجال السياسة فإنها تتعثر في أروقتها ومجالسها، وتختلف حولها الآراء والحلول، فتُراوح مكانها دون أن تتحرك شبراً واحداً، فلا يتم علاجها عشرات السنين، كما حدث بالفعل لمشكلة التغير المناخي والتي مازالت قيد البحث والمناقشة في الأمم المتحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

 

وهناك مشكلة أخرى في هذا السياق متعلقة بالمواصفات البيئية، أو بتحديد معايير جودة الهواء الجوي، وهي المواصفات التي تضعها الدول لتحديد التركيز "المسموح به" لأي ملوثٍ كيميائي في الهواء الجوي من أجل حماية صحة الإنسان ورعاية مكونات البيئة الحية وغير الحية. فمن المفروض أن لا يكون هناك خلاف كلياً حول هذه المعايير البيئية الصحية لأن هدفها حماية صحة الإنسان وسلامة البيئة، ولأنها تعتمد على الحقائق العلمية البحتة والنسبة التي تؤثر بها هذه الملوثات على الصحة العامة وصحة البيئة. ولكن بالرغم من ذلك يختلف رجال السياسة ومتخذو القرار وتحتدم بينهم المعارك عند وضع هذه المواصفات لأنها تضر بمصالح المصانع الكبرى ومحطات توليد الكهرباء وصناعة السيارات.

 

فعلى سبيل المثال، المواصفة الخاصة بتركيز غاز الأوزون السام في الهواء الجوي تغيرت مع الزمن في الولايات المتحدة الأمريكية وفي معظم دول العالم التي تعتمد على المعايير الأمريكية، فقد بدأت في عام 1971 بـ 80 جزءاً من غاز الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي، ثم تبين بأن هذا التركيز "المسموح به" يُعد مرتفعاً ولا يحمي صحة الناس ويسبب لهم مشكلات صحية مزمنة، فتم في عهد الرئيس الأسبق بوش وبعد سنواتٍ عقيمة من الجدال والكَر والفر بين أعضاء الكونجرس، وبالتحديد في 27 مارس 2008 الوصول إلى حلٍ سياسي توافقي يرضي كافة الأطراف، ولكن لا يحمي صحة الناس من شُرور هذا الملوث القاتل، وهو خفض هذا التركيز إلى 75، ثم مع مرور الزمن أكد العلماء وأجمعوا بأن الأوزون يفسد صحة الإنسان بأي تركيزٍ كان موجوداً في الهواء الجوي، فاقترح أوباما عام 2011 إلى خفض التركيز ليكون 70، ولكن واجه عاصفة جارفة وريحاً صرصراً عاتية من جماعات الضغط التي تدافع عن المصالح الضيقة الاقتصادية للمصانع الكبرى، ومن رجال السياسة والتشريع في الكونجرس، فاضطر خائباً إلى سحب اقتراحه بسبب هذه الضغوط السياسية العنيفة، مما يعني أنه لا بأس من أجل أن يبقى أوباما في منصبة أن يموت ويمرض الملايين من البشر لسنواتٍ عجافٍ قادمة، ليس في أمريكا وحدها وإنما في كل دول العالم لأنها معظمها يطبق المواصفات الأمريكية.

 

وبعد أن اشتد عُوده وتثبتت قدماه في البيت الأبيض عند انتخابه للدورة الرئاسية الثانية، طرح هذه المواصفة التوافقية "المعتدلة" مرة أخرى في الأول من أكتوبر عام 2015، علماً بأن العلماء كانت توصيتهم أن يكون التركيز 60 جزءاً من الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي وليس 70 ليقي الصحة العامة من الأمراض التي يسببها غاز الأوزون. وبالرغم من هذا كله إلا أن هذه المواصفة دخلت في نفقٍ مظلم مُسيس عندما فاز ترمب بالحكم وعيَّن رئيساً لوكالة حماية البيئة يُعرف بعدم صَدَاقته للهموم البيئية بشكلٍ عام، فأعلن رئيس البيئة في يونيو بأنه سيؤجل تنفيذ هذه المواصفة البيئية عاماً واحداً، وفور صدور هذا الإعلان رَفَعتْ 15 ولاية قضية ضد وكالة حماية البيئة الأمريكية لتأجيلها تطبيق المواصفة، مما اضطر في الثالث من أغسطس إلى الرضوخ أمام هذه الضغوط وتغيير القرار ليسمح بتنفيذ هذه المواصفة الجديدة.

 

فهذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى تؤكد بأن البعد السياسي والاقتصادي ومصالح وأطماع متخذي القرار هي التي تحسم تحديد المواصفات البيئية الصحية وتاريخ تنفيذها في أرض الواقع، وما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية ينعكس علينا مباشرة لأن معظم دول العالم تَتَبنى المواصفات الأمريكية المسيسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق