الاثنين، 28 أغسطس 2017

العالَم يَتحد ضد ملوثٍ واحد فقط!


لماذا تَترُك دول العالم أجمع عشرات الآلاف من الملوثات والمواد الكيميائية التي تنبعث من وسائل النقل والمصانع ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من مصادر التلوث التي لا تعد ولا تحصى، فتُشغل وقتها الثمين، وتقضي سنوات طويلة وتصرف أموال طائلة فتركز على ملوثٍ واحدٍ فقط؟

 

فدول العالم تجتمع منذ عقود طويلة من الزمن وتتفاوض حول كيفية القضاء على هذا الملوث، وسبل اجتثاثه من المجتمع البشري كلياً ومن البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية بشكلٍ عام، ولم تنته هذه المشاورات والمفاوضات الدولية إلا في 15 أغسطس من العام الجاري عندما صادقت 74 على الاتفاقية الخاصة بهذا الملوث، فدخل حيز التنفيذ والتطبيق من الدول الموقعة.

 

هذا الملوث الغُول الفريد الذي حظي باهتمام العالم برمته هو الزئبق، وهو العنصر السائل الذي تشاهده في الثرموميتر الذي يقيس درجة حرارة جسمك.

 

هذا العنصر له تاريخ أسود طويل مع الإنسان يزيد عن 80 عاماً، وسجله كئيب ومليء بالكوارث والضحايا البشرية، وصفحات تاريخه تقطر بالأحزان والمآسي البشرية العصيبة، وذاكرته المؤلمة مازالت حية حتى يومنا هذا وستبقى مخلدة أبد الدهر، فمعاناة الضحايا ماثلة أمام الناس ويرونها بأم أعينهم، وآثار تداعياتها على المرضى والمصابين باقية ومستمرة ولا تخفى على أحد وتنتقل من جيلٍ إلى آخر.

 

فالإنسان نفسه هو المتهم في قضية هذا الملوث، فهو الذي سمح بيديه الآثمتين وبمحض إرادته لدخول هذا الملوث السام الخطير إلى بيئته، وبالتحديد إلى البيئة البحرية بدءاً من الأربعينيات من القرن المنصرم في خليج مِينَماتا الواقع في مدينة مِينَماتا اليابانية، حيث قام أحد المصانع بصرف مخلفاته السائلة التي تحتوي على كميات صغيرة من الزئبق إلى هذا الخليج الصغير الآمن، ولم يعرف الإنسان أنه بهذا العمل البسيط قد غرس بذرة خبيثة سيئة المذاق في البحر، فأنتجت بذلك شجرة خبيثة كشجرة الزَّقُّوم الملعونة التي ضربت جذورها في أعماق البيئة البحرية، فنمت وترعرعت يوماً بعد يوم وأنتجت ثمراً قاتلاً عقيماً، فأكلت من هذا الثمر الكائنات النباتية والأسماك، ثم مع الوقت امتدت فروعها الضاربة إلى كل أرجاء البحر حتى خرجت إلى سطح البحر في مطلع الخمسينيات، فأكل منها الإنسان والطير والحيوان، وسقط أكثر من 200 ألف من البشر صرعى، بين ميتٍ نُقل على مثواه الأخير ومريضٍ مرضاً غريباً لم يعرفه الإنسان من قبل ولم يتمكن من علاجه سنواتٍ طويلة، ولذلك لم تعترف الحكومة اليابانية رسمياً بهذا المرض إلا في عام 1968!

 

واستمر هذا الكَرب العظيم ينزل على المجتمع الياباني عدة سنوات عصيبة وفي أكثر من مدينة واحدة، ولا يعرف كيفية التعامل معه وما هي أسبابه ومصادره إلا بعد سنواتٍ عجاف من المعاناة والبحث والتنقيب والجهود المضنية دون توقف ودون تعبٍ أو كلل حتى اكتملت الصورة وتم تفكيك اللغز وربط جميع المشاهد بعضها ببعض، وهي صرف الزئبق السام في البحر، وتحول الزئبق في التربة القاعية إلى ملوثٍ أشد خطورة وأشد بأساً وتنكيلاً، ثم انتقاله إلى النباتات البحرية فالأسماك وأخيراً إلى الإنسان. 

 

والآن وبعد مُضي أكثر من 61 عاماً على هذه الطامة الكبرى التي حَلَّتْ على الشعب الياباني، هناك من أحياها الله من ضحايا هذه الكارثة المؤلمة لتشهد على جرائم الإنسان تجاه بيئته وتجاه نفسه، فقد نجاها الله ببدنها وروحها وأطال في عمرها لتكون لنا الآن ولمن خلفنا وبعدنا آية نعتبر منها ونتعظ بها، وهذه الضحية البيئية هي شينابو ساكاموتو (Shinobu Sakamoto)البالغة من العمر 61 عاماً والتي انتقل إليها الزئبق وهي نُطْفة وعلقة ضعيفة وبسيطة لا حول لها ولا قوة في رَحم أمها، فتسممت وخرجت إلى الحياة الدنيا وهي شبه مشلولة لا تستطيع المشي دون مساعدة، وأعضاؤها مشوهة وتعاني من عيوبٍ خَلْقية شديدة، وستُشارك كشاهد عيان على مأساة مينماتا، وستحكي قصتها كاملة وحجم معاناتها خلال ستة عقودٍ من عمرها في أول اجتماعٍ لاتفاقية مينماتا للأمم المتحدة حول الزئبق، والتي ستعقد في الفترة من 24 إلى 29 سبتمبر من العام الجاري في جينيف.

 

فهل هناك شاهد نتعلم منه، ونستفيد من معاناته، ونستقى منه الدروس والعِبر أكثر من هذه المرأة المعوقة والمشلولة التي تقف أمامنا وتحكي لنا قصةً حية عُمرها 61 عاماً منذ ولادتها إلى آخر يومٍ في حياتها؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق