السبت، 20 يونيو 2015

البابا يتدخل في قضية التغير المناخي


أستطيع أن أُجزم وأؤكد على أن التغير المناخي هي قضية القرن بلا منازع، وهي من أشد القضايا تعقيداً وتشابكاً مع قضايا أخرى شائكة، فبالرغم من أنها تعد في ظاهرها قضية بيئية بحتة وتُعنى بارتفاع درجة حرارة الأرض وتغير المناخ على مستوى الكرة الأرضية، إلا أنها جذبت اهتمام الجميع في كل دول العالم بدون استثناء، سواء الدول الصناعية أم الدول النامية، الدول الغنية أم الدول الفقيرة، كما لَقَتْ اهتماماً مشهوداً وغير مسبوقٍ من علماء البيئة والمناخ أولاً، ثم انتقلت عدوى الاهتمام الآن إلى رجال الأمن، والسياسة، والاقتصاد، حتى بلغت ذروة هذا الاهتمام إلى رجال الدين والزعماء الروحيين وآخرهم بابا الفاتيكان.

 

فقد أصدر البابا فرانسيس رسالة أو منشوراً في 18 يونيو من العام الجاري تحت عنوان: "للعناية ببيتنا المشترك" ويتكون من 180 صفحة وستة فصول وذي غلافٍ أزرق اللون، وهو يعتبر أول وثيقة بابوية رسمية منشورة تصدر في خمس لغات عالمية وتعني بالبيئة، والتنمية ،فيتطرق إلى العديد من القضايا البيئية منها التغير المناخي، والتلوث، وحقوق المياه، والتنوع الحيوي، وانعدام العدالة الدولية البيئية.

 

وقد شدَّد المنشور وركز على قضية التغير المناخي، حيث قال البابا بشكلٍ صريح لا لبس فيه: "التغير المناخي مشكلة دولية ذو انعكاسات كارثية، ولها أبعاد بيئية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية... وتمثل التحدي الرئيس الذي يواجه البشرية في يومنا هذا". 

 

وربما البعد الجديد الذي أدخله البابا لأول مرة في هذا المنشور هو البعد الأخلاقي والاجتماعي للتغير المناخي والذي يتعلق بتحميل الدول الغربية لمسؤولياتها التاريخية في وقوع التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض على مدى قرابة قرنين من الزمن، ودعوة الدول الغربية الصناعية الغنية إلى المساهمة الفعلية والمؤثرة في خفض انعكاسات وتداعيات التغير المناخي على الكرة الأرضية برمتها، أو "بيتنا المشترك"، كما يصفها البابا.

 

فالجانب الأخلاقي للتغير المناخي يبرز من ناحية أن الدول الصناعية الغنية هي التي فجرت قضية التغير المناخي وهي التي ولدت آثارها المدمرة على كوكبنا، فمصانعها التي تشتغل منذ مائتين عام هي التي أطلقت السموم إلى الهواء الجوي وهي التي تسببت في حدوث التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، ولكن في الواقع الذي نراه أمامنا نجد أن الدول النامية الفقيرة هي الأشد تضرراً من تداعيات التغير المناخي الذي سببه الغرب والدول الصناعية في الشرق، والفقراء والمستضعفون هم الذي يقاسون يومياً من آثارها الضاربة في كافة أرجاء الأرض، وهم الذين يعانون من سلبياتها وتهديداتها العامة.

 

فالأغنياء في الدول الصناعية والمتطورة يعيشون في بلدانٍ قد استكملت بناء بِنيتها التحتية وتطورت واشتد عودها وقوت صلابتها، فلا يهزها شيء بسهولة ولا لها القدرة على مقاومة أي تغييرات مفاجئة قد تقع عليها، فهؤلاء الأغنياء والأثرياء في هذه الدول يقطنون في أبراجٍ مشيدة، وعماراتٍ صلبة وشاهقة فلا تصلها الفيضانات، ولا تحركها الأعاصير، ولا تزعزعها الرياح العاتية، ولا تغرقها الأمطار الغزيرة والمتدفقة، ولا تقتلها الحرارة المرتفعة أو البرودة القارصة الشديدة، ولذلك فهم يعيشون في هناءٍ دائم ونعيم فاحش، فلا يتحسسون آلام ومعاناة الشعوب المستضعفة التي تنزل عليهم المصائب وتدكهم المحن الطبيعية، فهؤلاء الشعوب الفقيرة في الدول النامية يعيشون في منازل متهالكة، وبيوتٍ ضعيفة لا تصمد أمام أي تغيرٍ مناخي من طوفان، أو فيضانات، أو أعاصير، أو تيارات مائية قوية تضرب السواحل، ولا يتحملون أي تغييرٍ، ولو كان طفيفاً وبسيطاً في درجات حرارة الأرض، أو ارتفاع مستوى سطح البحر، فمنازلهم البسيطة الواقعة مباشرة على السواحل غير مؤهلةٍ وغير قوية، وليس فيها وسائل الترفيه، أو التبريد، أو التدفئة، أو مقاومة التيارات المائية والرياح العاتية والموجودة في منازل الأغنياء في الدول الكبرى.

 

ومن هذا المنطلق فقد ذكر البابا، وصَدَقَ في قوله: "على الأمم الغنية دفع ديونها للفقراء"، وعلى الأمم الغنية التي استنزفت خيرات الدول الفقيرة، واستغلت ثروات الشعوب المستضعفة عقوداً طويلة من الزمن، وتحكمت فيها، ومازالت، عليها الآن أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية تجاه "بيتنا المشترك"، وتجاه الشعوب الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، وهذه المسؤولية تقع في شقين الأول أُطلق عليه "التوزيع العادل للثروة"، والثاني أُطلق عليه "التوزيع العادل للضرر"، فنريد تطبيق مبدأ العدالة البيئية بين الدول والشعوب، فكلٌ يتحمل عبء المسؤولية من جهة، وعبء الحل من جهةٍ أخرى، وكلٌ حسب دوره ومساهمته في بُروز المشكلة، وظهور تداعياتها الخطرة على البشرية جمعاء والكرة الأرضية برمتها.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق