الأحد، 28 يونيو 2015

المفاعل النووي السعودي


أسعدني كثيراً الخبر المنشور في وسائل الإعلام في 24 يونيو من العام الجاري، والذي جاء فيه أن وزير الخارجية الفرنسي أثناء زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية لباريس قد قال: " نحن نسعى لتوسيع قاعدة استثمار الطاقة في المملكة، لاسيما الطاقة النووية، إذ قَدَّمنا دراسة جدوى لبناء مفاعلين نوويين في السعودية، وسنوقع اتفاقاً نووياً لتطوير الطاقة النووية".

 

فأهمية هذا الخبر تأتي في ولوج المملكة العربية السعودية، ودول الخليج لاحقاً، في مجال الطاقة النووية والتعرف على كافة أسرارها التقنية المجهولة لدينا، وفي الوقت نفسه رسم إستراتيجية وسياسة طويلة المدى لأمن الطاقة في المملكة أولاً ودول الخليج ثانياً، من حيث خفض الاعتماد على مصادر الطاقة غير المتجددة كالبترول والغاز الطبيعي، والتوجه من الآن نحو الطاقة المتجددة والنظيفة واعتماد سياسة التنوع في مصادر الطاقة. وعلاوة على ذلك كله، فإن سبر غور خفايا الطاقة النووية، وتعلم كيفية الاستفادة منها والتعامل معها يُعد مصدر قوةٍ لنا ولأمتنا، ومؤشر إرهابٍ للأعداء الذين يتربصون بنا دائماً، ويخفوننا من استخدام هذه الطاقة الذرية التي يمتلكونها ضدنا.  

 

ولكن مشكلة الطاقة النووية في تقديري لا تكمن في الدخول في بحرها المتلاطم الأمواج والخفي والحصول على التقنية والأمور الفنية الأخرى المتعلقة بها والمحاطة عادةً بسرية تامة، فإذا توفر المال يمكن شراء واقتناء أية تقنية مهما كانت سرية، أو محظورة، أو خطرة، ولكن المشكلة الرئيسة للطاقة النووية، والأزمة الحقيقية الدائمة التي عادةً ما يتم تجاهلها من قبل الدول النووية منذ عشرات السنين، هي المخلفات الصلبة وشبه الصلبة التي تنجم عن استخدامها وكيفية التعامل معها بطريقة صحية وبيئية سليمين، سواء أكانت هذه الطاقة النووية مستخدمة لأغراض سلمية كتوليد الكهرباء للمنازل والمصانع والسفن والغواصات، أم لأغراض عسكرية كإنتاج القنبلة الذرية أو الصواريخ النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل.

 

فالدول الصناعية الكبرى التي دخلت في مجال استخدامات الطاقة النووية تواجه منذ أكثر من سبعين عاماً كابوساً مرعباً يجثم فوق صدورها في كل ليلية، ويؤرق ليلها ونهارها، ويشغل بال العلماء، ورجال السياسة، وزعماء الدول، فشتى أنواع مخلفات الطاقة النووية المشعة منذ بزوغ الفجر الأول لاكتشاف أسرار وقوة الطاقة الذرية مازالت تخزن في أراضي هذه الدول في ظروفٍ سيئةٍ وخطيرة، لا تهدد حياة البشر في هذه الدول فحسب، وإنما تحولت إلى آلاف القنابل النووية الموقوتة والمشعة، أو "مخلفات الدمار الشامل"، والتي لأي سببٍ من الأسباب كالتغير المناخي، والفيضانات، أو الزلازل، أو الأعاصير، أو التسربات الطبيعية للمواد المشعة قد تهز الكرة الأرضية برمتها، فتأكل الحجر والشجر وتهدم الأخضر واليابس، وتقضي على كافة أنواع الحياة على وجهها، أو في الأقل تصيب البشر بأمراضٍ مزمنة ومستعصية على العلاج والشفاء.

 

فقد احتار العلم والعلماء، وعجزت عقول البشر في كل أنحاء العالم حتى يومنا هذا في إبداع طرق العلاج المناسبة والسليمة والمستدامة لهذه المخلفات المشعة، سواء أكانت على هيئة قضبان وأعمدة الوقود النووي المستنفد الذي فقدت الجزء الأكبر من قوتها ونشاطها ولكن مازالت مشعة بدرجاتٍ منخفضة، أو كانت على هيئة أسلحة وذخائر وصواريخ قديمة تحمل في بطنها مواد مشعة، أو على هيئة سوائل مشعة استخدمت في تبريد المفاعلات النووية، ولذلك هناك أحجام مخيفة وكبيرة ومرعبة من هذه المخلفات المشعة التي بلغت عالمياً زهاء 270 ألف طن منتثرة ومنتشرة في مواقع ساخنة كثيرة في هذه الدول.

 

وفي المقابل هناك المفاجئات الكارثية التي تُباغت الإنسان وتأخذه على حين غرة، فتنزل علينا بين الحين والآخر وتولِّد أحجاماً هائلة من المخلفات المشعة الغازية والسائلة والصلبة التي عادةً ما تدخل في مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة ثم إلى الإنسان دون أن نعلم أبعادها المرعبة على صحتنا وصحة بيئتنا، كما حدث عند احتراق المفاعل النووي في تشرنوبيل في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، أو في مفاعلات فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011، فالمخلفات الصلبة وشبه الصلبة والسائلة التي نجمت عن الكارثتين مازالت حتى كتابة هذه السطور تبحث عن حلٍ جذري وعلاجٍ مستدام، فهي قنابل نووية موقوتة ومشعة قد تنفجر في أية لحظة. 

 

ولذلك فإنني بِقَدر ما أدعو دولنا عاجلاً وليس آجلاً إلى الاستفادة من الطاقة النووية وتكوين كوادر "وطنية" فنية ومدربة تدريباً عالياً على كافة جوانب هذه التقنية، فإنني أدعو إلى التفكير من الآن في كيفية التعامل مع المخلفات المشعة بكل أنواعها التي تنتج عن استخدام هذه الطاقة، حتى لا نفاجأ بوجودها أمامنا ولا نعرف ماذا نفعل بها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق