الثلاثاء، 23 يونيو 2015

الصَدْمةُ الصامتة


كتابٌ جديد تحت عنوان "الصدمة الصامتة"(Silent Shock) نُشر في استراليا مؤخراً، ويستحق القراءة والتدبر والتأمل، فهذا الكتاب يحكي قصة مأساة بشرية وقعت مشاهدها في الستينيات من القرن المنصرم، واستمرت أحداثها حتى يومنا هذا، فهذا الكتاب لا يتحدث عن خيالٍ علمي مستقبلي، ولا يُقدم رواية مرعبة ومخيفة عن الكوارث الإنسانية التي قد تقع ونشاهد تفاصيلها ومؤثراتها في أفلام هوليود، ولكن أهمية هذا الكتاب تنبع في أنها تخرج من صلب الواقع المعاصر، وتتحدث عن حكاية عشرات الآلاف من النساء والرجال والأطفال وأُسرهم الذين سقطوا ضحية لأخطاء أيادي الإنسان وجَشَعه وحُبه الشديد للربح السريع والوفير على حساب الآخرين.

 

إن هذا الكتاب الواقعي الحزين يحكي آلام الناس ومعاناتهم الشديدة ليس لعامٍ أو عامين، وإنما لعقودٍ طويلة عجاف مَرَّتْ عليهم واستمرت أكثر من خمسين عاماً، فيُقدم صورة حية واقعية لأجيالٍ من الناس وهم يقعون تحت وطأة المرض الغريب الذي لم يشهده أحد من قبل، والذي يتمثل في فقدان بعض أعضاء الجسم، والعيش سنواتٍ طويلة بدون يدٍ، أو رجلٍ، أو أطرافٍ أخرى، فمنهم من لا يستطيع المشي، ومنهم من يستطيع الأكل بنفسه، ومنهم من لا يستطيع القيام بأية حركة وكأنه أصيب بشللٍ تام أَوْقف كل أعضاء جسمه عن الحركة.

 

وغلاف الكتاب الذي رأيته يجسد هذه المظاهر الحزينة والمؤلمة وقسوة الحياة التي تعرض لها هؤلاء البشر، فصورة الغلاف تُبكي النفس ألماً وحسرة، وتحرق القلب الإنسان عندما يراها ويتمعن فيها، فهي تروي صورة طفلة جميلة وهي تبتسم والبشاشة بادية عليها، فكافة أعضاء وجهها مكتملة وشديدة الجمال والكمال، وشعرها ناعم وأشقر اللون، ولكن هذا الوجه الجميل للطفلة البريئة نراها وهي جالسة على كرسي متحرك له حزام كحزام السلامة في السيارات ليمسك بجسدها الصغير حتى لا يسقط، فهي قد فقدت يديها، ولا أرجل لها، أي أنها لا تستطيع الوقوف، أو المشي، فهي قعيدة هذا الكرسي طوال حياتها. 

 

وقد كَتَبَ المؤلف مايكل ماجازانك(Michael Magazanik) الذي كان يعمل محامياً مدافعاً عن هؤلاء الضحايا وأُسَرهم هذا الكتاب بدموع الأمهات البواكي، وآهات اليتامى، وصرخات المرضى والمـُقْعدين، وآلام الأطفال الذين فقدوا أعضاءً من أجسامهم وأصابهم الشلل التام، وسَطَّر أحرف الكتاب من أنين الآباء والأمهات الذين ابتلوا بأطفال مشوهين خَلْقياً ومتخلفين جسدياً وعضوياً، فعليهم رعايتهم والاعتناء بهم طوال سنوات حياتهم.

 

فهذه الطامة البشرية الكبرى نسجت خيوطها في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم عندما أَنْتجت شركة ألمانية دواءً سحرياً فاعلاً لعلاج الحالة المرضية التي تصيب النساء الحوامل أثناء الصباح، ولكن لم يعرف أحد أن هذا العلاج الآني للألم يسبب في الوقت نفسه بعد سنواتٍ آلاماً مزمنة، ومأساة إنسانية مستدامة تصيب هذه المرأة وجنينها والأطفال المولودين بعاهاتٍ جسدية وإعاقات تبقى معهم طوال حياتهم، وبعد سنواتٍ قليلة من استخدام الدواء، حذَّر الأطباء المختصون من تداعياته وآثاره الجانبية المهلكة على الأطفال من خلال اصابتهم باختلالات جسدية غريبة جداً وتشوهات خَلْقية نادرة. ولكن كالعادة فإن هذه الشركات العملاقة التي لا يهمها إلا جمع المال فحسب، لم تستمع لهذه النداءات والصرخات العالية المدوية حتى طفح الكيل، وانكشفت الكارثة أمام الرأي العام، وعندها فقط تم سحب الدواء من الأسواق، أي بعد أن دمر صحة البشر، وأوقع الضحايا بالآلاف في كل أنحاء العالم، وبقيت آثاره المأساوية مشهودة وملموسة منذ نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم وحتى كتابة هذه السطور.

 

وهنا يجب علينا أن نقف ملياً أمام هذه القصة المخيفة ونُدرك أبعادها ونتعلم من هفواتها وخبراتها، ونستفيد من تجاربها، فالدواء كما يُقال شر لا بد منه، ولذلك يجب الحذر الشديد عند استخدامه وتناوله، وبخاصة بالنسبة للدواء الجديد الذي يظهر في الأسواق ويُقدم للناس بأنه الدواء السحري الأُعجوبة الذي يعالج الأسقام ويشفي من الآلام، فمن الضروري على الجهات المعنية عدم الاستعجال، والتأكد من أن هذا الدواء قد خاض التجارب الميدانية التي تُجرى على الأدوية الجديدة، والتثبت من الآثار الجانبية التي يتركها هذا الدواء على المريض، ثم بعد كل هذه الإجراءات الصارمة والدقيقة نُقدم الدواء للمريض، وندعو الله له العلاج والشفاء.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق