الثلاثاء، 14 يوليو 2015

معاناة اليابان من مخلفات الدمار الشامل


أستطيع أن أُلخص معاناة اليابان المزمنة والمستمرة منذ عقودٍ طويلة مع مخلفات الدمار الشامل المـُشعة في ثلاث قضايا رئيسة. الأولى هي المخلفات الصلبة وشبه الصلبة التي نَتَجَتْ، ومازالت تنتج وتتراكم يومياً عن محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية، والثانية فهي المخلفات الصلبة وشبه الصلبة والسائلة والغازية التي نجمت عن كارثة حرق المفاعلات النووية في فوكوشيما في 11 مارس 2011. أما الثالثة فهي المخلفات الصلبة التي تنجم عن المحركات التي تعمل بالطاقة النووية في الغواصات والسفن وغيرهما والأدوات والمعدات التي تستخدم لتشغيلها.

 

فالنوع الأول من المخلفات يتكون عادةً من الوقود، أو أعمدة اليورانيوم المستنفدة، وهي الوقود الذي تم استهلاكه فأصبح منخفض النشاط الإشعاعي بحيث إنه لا يصلح لتوليد الطاقة مرة ثانية ولكنه بالرغم من ذلك يستمر مشعاً آلاف السنين، ولذلك لا بد من التخلص منه ومعالجته بطريقة سليمة بيئياً وصحياً، وهذه المشكلة تعتبر من القضايا المزمنة والشائكة التي تـُمثل كابوساً مرعباً ومخيفاَ يُراود بشكلٍ يومي جميع الدول التي تُولِّد الكهرباء باستخدام الطاقة الذرية، وخاصة إذا علمنا أن قضبان الوقود المشع يجب أن تُستبدل مرة كل سنتين في الأقل، أي إن هذه المخلفات المشعة الصلبة تتراكم مع الوقت وتزيد أحجامها كل سنة، وتعتبر كالقنبلة الموقوتة المشعة التي قد تسبب كارثة كبرى في أي وقت في حالة وقوع الزلازل أو الكوارث الطبيعية الأخرى.

 

وفي اليابان هناك زهاء 17 ألف طن من هذه الأعمدة المشعة المتراكمة والمخزنة بشكلٍ مؤقت وبطرقٍ غير سليمة بيئياً وصحياً في بركٍ مائية للتبريد، وهذه المخازن الخطرة التي تهدد حياة السكان منتشرة في جميع أنحاء اليابان وموجودة في مواقع لمحطات توليد الكهرباء، وهذه الأحجام الكبيرة من قنابل التدمير الشامل تنتظر مصيرها النهائي ومثواها الأخير.

 

وقد حذر المجلس العلمي الياباني بشدة في تقريره المنشور في سبتمبر 2014 من هذا الوضع المأساوي وأكد على واقعية التهديدات التي تنجم عن هذه المخلفات المشعة التي تتعاظم في كل يوم وتزدحم بها مواقع محطات توليد الطاقة، ونبه التقرير الحكومة إلى ضرورة إجراء مراجعة شاملة وجذرية لهذا الوضع الكارثي، وإبداع طرق جديدة ودائمة للتعامل مع هذه المخلفات. واستجابة لنداءات هذا المجلس العلمي وتلبية للحاجة الملحة لحل هذه القضية المعقدة، اتخذت الحكومة اليابانية في 22 مايو من العام الجاري قراراً بإجراء دراساتٍ علمية معمقة لاختيار أفضل المواقع في اليابان ثم عرضها على الجهات المحلية للموافقة عليها. ولكن في الوقت نفسه تبرز مشكلة أخرى يصعب حلها، وهي أن جميع المجتمعات المحلية ترفض وجود هذه القنابل الموقوتة بالقرب منها، أي أنها لن توافق على أن تحول أحياؤها مقابر جماعية للمخلفات المشعة وقنابل الدمار الشامل فيعيش الناس في قلقٍ دائم من وجودها في مناطقهم وعلى جنبات منازلها ومدارسها ومجمعاتها، ولذلك تحاول الحكومة تقديم "الرشاوى" للبلديات والحكومات المحلية، وإغرائهم بالحوافز المادية والتسهيلات الإدارية من أجل تشجيهم على الموافقة، وقد فشلت الحكومة اليابانية حتى يومنا هذا إقناع أية جهة محلية لقبول هذا العرض المالي السخي!

 

أما النوع الثاني من المخلفات المشعة فقد نزل على اليابان من غير إرادتها وأخذت الشعب الياباني على حين غرة، فقد ابتلى الله اليابان برمتها بكارثةٍ عظيمة هددت الشعب الياباني برمته والعالم أجمع عندما احترق مفاعل دايشي النووي في فوكوشيما وانبعثت منه أحجام لا يعلمها إلا الله من الملوثات المشعة إلى الهواء الجوي، فسممت الهواء، ثم نزلت على التربة فلوثت الإنسان والحيوان والطير ودخلت في السلسلة الغذائية للإنسان، حتى سَمِعنا عن لحومٍ ملوثة بالإشعاع، وحليبٍ مشع، وشاي مسموم بالمواد المشعة. ونتيجة لهذا الكَربْ المخيف انكشفت عدة أنواع من المخلفات، منها أطنان كبيرة من التربة المشعة، وعشرات الآلاف من الأمتار المكعبة من المياه الشديدة الإشعاع والتي دخل بعضها إلى مياه البحار فلوث البحر والسمك وكافة الأحياء البحرية الأخرى، ومنها آلاف الأطنان من المنتجات الغذائية المشعة التي لا تصلح للاستهلاك الآدمي، ومنها الملابس المشعة التي استخدمها العمال أثناء عملية إصلاح المفاعلات، إضافة إلى الأجهزة التي كانوا يحملونها للكشف عن الإشعاع في الهواء والماء والتربة، وكل هذه المخلفات المشعة الطارئة التي فاجأت اليابان تم جمعها بطرقٍ بدائية سريعة ومتعجلة، وبعضها جمعت في أكياس القمامة البلاستيكية ووضعت في مواقع عامة مختلفة منها مدارس وملاعب. وكل هذه المخلفات القاتلة للبشر والحجر والشجر تراكمت ومازالت تتراكم في البيئة اليابانية وبحاجة ماسة إلى التعامل معها بأسلوبٍ جذري ونهائي.

 

ولذلك نجد أن المخلفات النووية المشعة مهما كان نوعها ومصدرها تعد مشكلة أزلية خالدة في اليابان، والحلول المطروحة الآن للتعامل معها تدخل في باب "التخزين طويل الأمد" لأنها ستظل مشعة آلاف السنين، وستظل حُلماً مزعجاً يؤرق حياة هذا الجيل والأجيال اللاحقة.         

   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق