الأحد، 19 يوليو 2015

تَعْميدْ الأميرة شارلوت بماءٍ ملوث



لم أكنْ أتصور أن البيئة وهمومها، والتلوث وشؤونه، وبخاصة تلوث الماء يحظى بهذه التغطية الشاملة والواسعة من قبل كافة وسائل الإعلام الغربية والشرقية، بل ويدخل ضمن القضايا الدينية والشعائر التعبدية اليومية عند المسيحيين، ويدور حوله الجدل الشديد والحوار الساخن والمحتدم.

فقد اهتمت وسائل الإعلام بخبرٍ ملخصه أن الأميرة شارلوت ابنة الأمير وليام من العائلة الملكية البريطانية قد تم تعميدها بماءٍ ملوثٍ بنسبٍ مرتفعة من مياه المجاري غير المعالجة التي تَصُب في نهر الأردن، حيث إن الطقوس الدينية التقليدية المسيحية المتبعة منذ قرون في هذه الشعيرة التعبدية الملكية، تُلزم غسل المولود بماءٍ مقدس مأخوذ من موقعٍ محدد في نهر الأردن، والذي تشترك فيه ثلاث دول هي الأردن، وفلسطين، ودولة العدو. وجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) أعلنت في هذا الشهر الجاري أن هذا الموقع التاريخي المقدس من النهر يقع في الضفة الشرقية في الأردن وأدخلت هذا الموقع من ضمن قائمة المواقع التراثية والتاريخية العالمية، وهذه ضربة مؤلمة وقاسية لإسرائيل التي كانت تتاجر منذ سنوات بأن موقع تعميد المسيح عليه السلام يقع في الجانب الغربي من النهر المحتل من إسرائيل. 

ونظراً لحساسية القضية وبعدها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والسياحي، فقد تدخلت السلطات الأردنية الرسمية الدينية وصرحت لوسائل الإعلام بأن ماء النهر الذي استعمل لتعميد الأميرة غير ملوث، فقد تمت معالجته وتنظيفه وتعقيمه ثم مباركته من قِبَل رجال الدين قَبْل إرساله إلى بريطانيا.

فهذا الخبر يدخل ضمن قضيةٍ حيويةٍ كبرى تُعد قضية حياةٍ أو موت بالنسبة للإنسان وسائر المخلوقات والكرة الأرضية برمتها، وهي حماية الثروة المائية ورعايتها نوعياً وكمياً من أي نوعٍ من أنواع التلوث والضرر والأذى. فللماء أهمية عظيمة في تراثنا الإسلامي تكمن في أنه أولاً سر حياة الإنسان، فكل مخلوق حيٍ وغير حي خُلق من الماء، وهو المقوم الرئيس لاستدامة بقائه ومعاشه ونجاح أنشطته التنموية، مصداقاً لقوله تعالى:"وجعلنا من الماءِ كل شيءٍ حي"، وثانياً فالله خلقنا وخلق جميع الكائنات التي تعيش معنا من الماء، فهو القائل سبحانه وتعالى:"وهو الذي خلق من الماء بشراً"، وأكد على هذه الحقيقة في آيةٍ أخرى عندما قال:"والله خلق كل دابةٍ من ماء"، وجاءت أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام لتصب في تثبيت قوله تعالى عندما قال:"كل شيءٍ خُلق من الماء".

وانطلاقاً من هذه الأهمية الكبرى التي حباها الله جَلَّت قدرته للثروة المائية، فقد سن القوانين اللازمة لحمايتها والحفاظ عليها، ووضع الإجراءات العملية لصيانتها من الناحيتين النوعية والكمية حتى تستديم حياة الإنسان على وجه الأرض. أما من ناحية حمايتها بشكلٍ عام فقد جعل الله الماء ثروة عامة مشتركة لا يجوز لأي إنسان، أو شركة، أو غيرهما احتكار هذه الثروة ومنع الناس عامة من الاستفادة منها، أو الإضرار بسلامتها نوعياً أو كمياً، عندما قال سبحانه:"ونبئُهم أن الماء قسمةٌ بينهم" وأكد على هذا المبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ويمكن الرجوع إليها في كتابنا تحت عنوان:"حماية الحياة الفطرية في الإسلام".

ومن الجانب الآخر فقد رعى الإسلام هذه الثروة من ناحية الحفاظ على كميتها والاعتدال وعدم الإسراف في استعمالها، حتى ولو كانت متوافرة بأحجامٍ كبيرة، حيث أمر نبينا إلى عدم التفريط في هذه الثروة والإسراف فيها عندما قال "وإن كُنتَ على نهرٍ جار"، وفي الوقت نفسه جاءت توجيهاته عليه الصلاة والسلام وأعماله وممارساته اليومية مطابقة لما يدعو إليه المجتمع الدولي اليوم في حماية هوية ونوعية وصحة هذه الثروة المقدسة ودرء الملوثات والمواد الكيميائية الضارة عنها ومنع الأذى عن الوصول إليها، وهناك من الأحاديث النبوية ما يؤكد على دعوة الإسلام إلى ذلك، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، أن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام "نَهى أن يُبال في الماء الراكِد والجاري"، أي بالمقاييس الحالية نهى الرسول إلقاء مياه المجاري في المسطحات المائية من بحار وأنهار ومحيطات.

وجدير بالذكر فإن الإسلام ربط حماية البيئة بشكلٍ عام والموارد المائية بصفةٍ خاصة بالعبادة وكسب الأجر والثواب، فكل إنسانٍ يحافظ على الثروات البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة ويمنع عنها الضرر والأذى فهو يتقرب إلى الله بهذه الأعمال الصالحة البسيطة ويُؤجَر ويثاب عند القيام بها، فمن منكم لا يريد الثواب والأجر والحسنات لعلها تنفعه عندما لا ينفع مالٌ ولا بَنُون إلا من أتي الله بعملٍ صالحٍ ونافع، وقلبٍ سليمٍ وجامع؟         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق