الثلاثاء، 21 يوليو 2015

إلى زُوار لندن


كل ما يعرفه الزوار العرب، وبخاصة الخليجيون عن لندن هو هايد بارك(متنزه هايد)، وأكسفورد ستريت(شارع أكسفورد)، وإدجوار رود(شارع إدجوار)، ولكنهم يجهلون تماماً حقيقة واقعية ذات انعكاسات صحية وبيئية تهدد حياتهم بالخطر، وتعرضهم وهم في لندن للأمراض المزمنة والأسقام المستعصية.

 

هذه الحقيقة يتحدث عنها منذ سنوات قادة بريطانيا، وعلماؤها، وكتابها، فقد نُشرت مئات الدراسات والأبحاث التي تحذر من الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها جودة ونوعية الهواء الجوي التي يستنشقها كل إنسان يعيش أو يزور لندن، حتى إنها تحولت الآن من قضية صحية وبيئية إلى قضية سياسية واقتصادية كبيرة ترهق كاهل الميزانية البريطانية.

 

أما من الناحية البيئية الصحية فإن آخر تقريرٍ نُشر، ولن يكون الأخير من نوعه، هو الذي قامت به كلية كينجز العريقة(King's College) في لندن 16 من الشهر الجاري، وبدعمٍ وتمويلٍ من هيئة المواصلات الحكومية، حيث أكد التقرير على أن عدد الذين يموتون موتاً مبكراً وبطيئاً بسبب تلوث الهواء في بريطانيا يقدر بـ 80 ألف سنوياً، منهم قرابة 9500 سنوياً بسبب استنشاق هواء لندن السام، كما أفاد هذا التقرير العلمي أن الذين يموتون نتيجة للتعرض للملوثات القاتلة الموجودة في الهواء الجوي يزيد عشر مرات عن الذين يموتون في الشوارع بسبب الحوادث المرورية.

 

وفي دراسة سابقة قامت بها أيضاً كلية كينجز في لندن، أكد فيها الباحثون على أن "مستويات ثاني أكسيد النيتروجين في أكسفورد ستريت تُعد الأسوأ في العالم"، أي أن شارع أكسفورد الذي يعتبر القلب التجاري والسياحي النابض بالحياة طوال اليوم وعلى مدى العام كله، هو من أكثر الشوارع في بريطانيا وعلى المستوى الدولي تلوثاً، وأشدها فساداً من ناحية ارتفاع تركيز الملوثات، وبخاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة، وثاني أكسيد النيتروجين التي تنجم بصفة خاصة عن وسائل النقل التي تعمل بالديزل.

 

ومن الناحية القانونية والسياسية والاقتصادية، فهناك عدة مستويات تؤكد حجم التلوث ودرجة المعاناة التي نزلت على مدن بريطانية العريقة عامة، ولندن خاصة. أما على مستوى بريطانيا، فقد أصدرت المحكمة العليا البريطانية في أبريل من العام الجاري حكماً قضائياً نهائياً يؤكد فيه أن جودة ونوعية الهواء في بريطانيا تتعارض ولا تتوافق مع معايير جودة الهواء للإتحاد الأوروبي، وبخاصة في المدن العريقة الكبرى مثل لندن، وبيرمينجهام، وليدز، أي أن تركيز بعض الملوثات، وبالتحديد أكاسيد النيتروجين والدخان أو الجسيمات الدقيقة يتجاوز كثيراً النسب المسموح بها في هواء أوروبا، وتزيد مستوياته بشكلٍ فاضحٍ مشهود منذ عقود طويلة عن المعايير الأوروبية المتعلقة بجودة الهواء. ولذلك نجد أنه على المستوى الأوروبي، فقد اضطر الاتحاد الأوروبي بعد سنواتٍ طويلة من الصبر والتهديد والوعيد إلى رفع قضية ضد بريطانيا في محاكم العدل الأوروبية لكي تقوم بريطانيا بتوفيق أوضاعها البيئية والتعهد بالتزامها بالمواصفات الأوروبية، ولذلك تواجه بريطانيا الآن موقفاً صعباً جداً يتمثل في غرامة مالية فُرضت عليها ويجب دفعها خلال السنوات القليلة القادمة وتبلغ 300 مليون جنيه إسترليني كل عام. 

 

وجدير بالذكر أن هذا الوضع المأساوي الذي يعاني منه الهواء الجوي في لندن، يتكرر في مدن أوروبية أخرى، وفي مقدمتها باريس حيث أكد تقرير قامت به لجنة البيئة في البرلمان الفرنسي 15 من الشهر الجاري أن تلوث الهواء وتداعياته البيئية، والصحية، والاجتماعية، والسياحية يكلف الحكومة الفرنسية زهاء مائة بليون يورو نتيجة لعلاج الأمراض الناجمة عن التلوث، وتلف المحاصيل الزراعية، ونقص إنتاجية الأفراد، وتدهور طلاء ونوعية المباني الحكومية والأثرية والتاريخية، إضافة إلى التكاليف الباهظة التي تنجم عن الموت البطيء والمبكر للمواطن الفرنسي.

 

وهذه التجربة اللندنية والباريسية يجب أن نقف أمامها وقفة متأنية ومعمقة، فندرس أسبابها، ومصادرها، وطرق تجنبها في بلادنا، وإلا فنحن سائرون في الطريق نفسه.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق