الأربعاء، 10 فبراير 2016

وفاة أمٍ وطفلها


خبرٌ عابر وصغير نشرته صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 25 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "أم وابنها يموتان بسبب التسمم من غاز أول أكسيد الكربون في السيارة"، ولكن بالرغم من صغر مساحة وموقع هذا الخبر في الصحيفة إلا أن له مدلولات صحية وبيئية  عظيمة ومؤثرة تنعكس على المليارات من البشر في كل أنحاء العالم، ويندرج ضمن قضية عامة تُعاني منها كل مدن العالم بدون استثناء، وهي تلوث الهواء من السيارات ودوره في قتل الإنسان وإصابته بالعلل التي يعجز الأطباء عن علاجها.

 

فهذه الأسرة الأمريكية المنكوبة فُجعت وتألمت ألماً شديداً، وعانت من جرحٍ عميق لن يندمل على ما أصابها من مصيبة الموت وفقدان الأم والابن في حادثة واحدة وفي الوقت نفسه عندما تعرض أفراد العائلة للملوثات التي تنبعث من السيارات، وبالتحديد الغاز الصامت، أول أكسيد الكربون، الذي لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، فيقضي هذا القاتل الصامت على الإنسان، ويباغته فجأة دون أن يحس بوجوده، وبدون أن يشعر بالألم كثيراً وهو يذوق طعم الموت. 

 

فالرياح الثلجية الصرصر العاتية هزَّت أركان أكثر من 13 ولاية أمريكية لأكثر من أسبوع في نهاية شهر يناير من العام الجاري، وشلت حركتها، وأغلقت مدارسها ومجمعاتها، وتوقفت الحياة فيها أياماً طويلة، وأُعلنت حالة الطوارئ الاتحادية في مدنها وقراها، ثم بعد أن هدأت العاصفة وسكنت الرياح، خرج الناس من منازلهم ليتفقدوا خسائرهم والدمار الذي نزل على بيئتهم، ويزيلوا الثلوج التي خيمت فوق سياراتهم، فغاصت فيها، وغطتها كاملة.

 

ومن هؤلاء الناس الذين خرجوا من بيوتهم، أُسرة بأكملها تعيش في مدينة باسياك(Passaic) بولاية نيوجيرسي، ومكونة من رجلٍ وزوجته وطفل رضيع عمره سنة واحدة، وبنت تبلغ من العمر ثلاث سنوات، فقال الرجل لامرأته أدخلي السيارة مع الأطفال، وأشغلي محرك السيارة، وابقي معهم للهروب من البرد في الخارج وللحصول على قسطٍ من الراحة والدفء بالجلوس في السيارة. وأثناء وجود الأسرة في السيارة ومحرك السيارة يعمل، قام رب الأسرة بإزالة الثلوج من فوق السيارة، واستغرقت العملية نحو نصف ساعة، ثم ذهب بعدها إلى السيارة ليُحركها ويخرج مع الأسرة في نزهةٍ قصيرة، فصُعق بالمنظر الرهيب الذي رآه أمامه، وكاد أن يسقط مغشياً عليه من هول المشهد، فقد شاهد أسرته واقعة على كراسي السيارة دون أية حركة، أو أي نبضٍ للقلب يشير إلى أنهم أحياء، فسارع إلى الاتصال بالطوارئ وسيارات الإسعاف التي هرعت إلى المكان فوجدت الأم وطفلها قد سلما الروح لبارئهما، ولكن الطفلة الصغيرة مازالت حية ولكن في حالةٍ صحيةٍ خطيرة جداً فنقلت فوراً إلى المستشفى.

 

فماذا حدث خلال هذه الدقائق البسيطة التي خرج فيها الرجل لإزالة الأكوام الثلجية من فوق السيارة؟

 

فعندما أَدَار هذا الرجل محرك السيارة لم يعلم بأن الثلوج قد سَدَّت وأغلقت أنبوبة عادم السيارة التي تخرج منها الملوثات إلى الهواء الجوي، ولذلك فالسموم القاتلة التي كانت تنجم عن حرق الجازولين في السيارة لم تجد لها منفذاً للخروج، ولم تجد طريقاً لها إلى خارج السيارة، فكانت طوال هذه الدقائق ترجع مرة ثانية إلى داخل السيارة، فتتراكم في هذه البيئة الضيقة المغلقة حيث تجلس المرأة مع طفلها وابنتها، حتى وصلت هذه الملوثات القاتلة، وفي مقدمتها غاز أول أكسيد الكربون إلى الدرجة الحرجة، فقضى فوراً على المرأة وطفلها.

 

فهذه الفاجعة التي نزلت على هذه الأسرة فغيرت كلياً مسيرة حياتها، يجب أن تؤكد لنا جميعاً بأننا كُلنا قد نتعرض لمثل هذه المحنة وتصيبنا هذه الطامة الكبرى، كما يجب أن تثبت لنا بما لا مجال فيه للشك بأن الملوثات التي تنبعث من الملايين من السيارات في كل أنحاء العالم قاتلة للبشر، وتُسقط الإنسان في فخ الأمراض الحادة والمزمنة، وتصينا بالأسقام المستعصية عن العلاج.

 

فمنظمة الصحة العالمية تحذر منذ سنوات من ظاهرة تلوث الهواء من عوادم السيارات، وتنشر الإحصاءات تلو الإحصاءات في كل مناسبة لتؤكد بأن الهواء أصبح مسرطناً بسبب دخان السيارات، وأن هناك أعداداً مهولة من البشر في جميع دول العالم تموت موتاً مبكراً نتيجة للتعرض اليومي المستمر للملوثات التي تنبعث من السيارات.

 

فهل نستجيب لصرخات منظمة الصحة العالمية وللواقع الصحي والبيئي الصعب الذي نعيشه، أم نتجاهلها فتنشر أسماؤنا في قائمة إحصاءاتها المتعلقة بأعداد الموتى من السيارات؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق