الثلاثاء، 23 فبراير 2016

من يَقْتل خمسة ملايين إنسان سنوياً؟


هناك حوادث مميتة إذا وقعتْ تهتز لها وسائل الإعلام جميها، فتتحرك فوراً وسريعاً في تحقيق السبق لتغطية تفاصيلها وكل دقائقها لحظة بلحظة، مثل حوادث سقوط الطائرات، أو اصطدام السيارات والقطارات، وفي المقابل هناك مصادر تؤدي إلى قتل ملايين البشر سنوياً فتقضي عليهم مبكراً وهم في سن الشباب، ولكن لا نرى هذه التغطية الإعلامية الحماسية الواسعة، ولا نشاهد هذا الاهتمام المباشر والسريع، وكأن موت الإنسان في حالة سقوط الطائرات أو حوادث السيارات يختلف عن موت الإنسان من هذه المصادر الأخرى.

 

فالدراسات والأبحاث الميدانية حول هذا المصدر القاتل للبشر لم تتوقف منذ أكثر من قرن، والباحثون يكتشفون في كل يومٍ حقائق جديدة ومؤلمة حول التهديدات الكبيرة التي يُشكلها هذا المصدر للإنسان، والحيوان، والحجر، والشجر، ومنها الدراسة الدولية الشاملة والجامعة التي قُدِّمت في المؤتمر العلمي السنوي للجمعية الأمريكية لتطور العلوم في 12 فبراير من العام الجاري، وغطت 188 دولة في الفترة من 1990 إلى 2013.

 

فهذه الدراسة أشارت بأطراف البَنَان إلى هذا الجُرح البشري الذي ينزف منذ عقودٍ طويلة من الزمن، فأكدت على أن تلوث الهواء في البيئات الداخلية كالمنزل والبيئات الخارجية هو الذي يجعل الجرح لا يندمل ويستمر في النزيف حتى الآن، فأشار الباحثون إلى أن أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون إنسان يَلقَون حتفهم سنوياً نتيجة لتعرضهم للهواء الملوث والسام، ويموتون في سنٍ مبكرة وهُم في ريعان شبابهم، سواء من فساد الهواء في البيئات الداخلية التي يعيشون فيها، أو تدهور صحة الهواء في البيئات الخارجية التي يمارسون أعمالهم وأنشطتهم اليومية فيها، كما أكد الباحثون على أن عدد الموتى من تلوث الهواء في ارتفاع مطرد مع الزمن لعدم وجود إجراءات حازمة وجادة لمواجهة مصادر التلوث وخفض انبعاث الملوثات من مصادرها الداخلية والخارجية.

 

أما بالنسبة لأنماط حالات الموت حسب دول العالم، فقد انكشفت حقيقة جديدة لها علاقة بأسلوب التنمية المتبع في مختلف دول العالم ودوره في الحالات المرضية التي يتعرض لها الناس وأعداد الموتى من هذه الأمراض. فمنذ مطلع الثورة الصناعية في الدول الغربية بشكلٍ خاص واستخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء والتدفئة في المنازل، ارتفعت نسبة التلوث وتركيز الملوثات في الهواء الجوي، ووقعت كوارث كثيرة سقط فيها عشرات الآلاف من البشر ضحايا للتلوث وللملوثات السامة والقاتلة التي انبعثت إلى الهواء الجوي، وبالتحديد في بعض مدن الولايات المتحدة الأمريكية العريقة، والعاصمة البريطانية لندن، وفي العاصمة اليابانية طوكيو، ثم انتقلت عدوى التلوث والأمراض التي تنجم عنه إلى بعض الدول النامية التي شرعت منذ منتصف القرن العشرين في نمط النمو الذي اتبعته الدول الصناعية العظمى، وهي التنمية المتَعجلة غير المتبصرة، فسارعت في تحقيق النمو الأحادي الجانب وعلى حساب كل القطاعات الأخرى البيئية والاجتماعية والصحية، فسقطت فريسة سهلة في الفخ نفسه الذي هَوَتْ فيه الدول الصناعية المتطورة، ونتيجة لذلك واجهت المصير نفسه، وهو موت البشر بسبب التعرض للهواء السام والملوث والإصابة بالأمراض المتعلقة بهذا التلوث.

 

والصين أفضل مثالٍ يمكن ضربه وتقديمه لهذا النمط من التنمية، ولهذه النتيجة الحتمية التي تنجم عن هذا الأسلوب غير المستدام من التنمية المعوقة وغير الرشيدة. فالصين تواجه منذ سنواتٍ ظاهرة خاصة تتمثل في تشبع الهواء الجوي بالملوثات، ويُطلق عليها الضباب القاتل أو الضباب الضوئي الكيميائي الذي ينزل بين الحين والآخر ضيفاً ثقيلاً على الغلاف الجوي السفلي، فيشل الحياة كلياً في الكثير من المدن الصينية الصناعية، ويُوقف القلب عن النبض في هذه المدن، فيُغلق المطارات، والمدارس والجامعات، ويوقف الحركة المرورية في الشوارع، ويضطر الناس إلى أن يلزموا منازلهم خوفاً من الخروج واستنشاق الهواء السام. وقد تفاقم هذا الفساد النوعي والكمي للهواء الجوي وزادت الضحايا البشرية إلى درجةِ أن الحكومة الصينية، ولأول مرة في تاريخها الطويل والعريق تُعلن "الحرب على التلوث". فهذا الوضع البيئي السيء والمتدهور للهواء كانت له حصيلة ثقيلة، ودفعت الصين ضريبة باهظة كبيرة تمثلت في أبعادٍ كثيرة من أشدها وطأة على الحكومة والشعب هو الارتفاع المشهود في أعداد الموتى الذين يسقطون صرعى بسببه، حيث بلغ العدد حسب الدراسات موت نحو 1.6 مليون صيني سنوياً، وهذا العدد في تزايد مستمر كل سنة.

 

وبعد هذه الحقائق العلمية الدامغة المتواترة التي يجمع عليها علماء العالم كلهم بدون استثناء، أَقِف حائراً ومستغرباً من ردة الفعل الباردة وغير المبالية للدول والحكومات تجاه هذا المصدر المدمر لصحة البشرية في كل أنحاء العالم! 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق