السبت، 13 فبراير 2016

أمريكا من دول العالم الثالث!


عنوانٌ غريب جداً اخترته لمقالي اليوم، فلا شك بأن الكثيرين من الذين سيقرؤون هذا العنوان لن يتفقوا معي على أن أعظم وأقوى دولة على وجه الأرض وهي الولايات المتحدة الأمريكية تُعد في تقديري من دول العالم النامي، أو ما يُطلقون عليه دول العالم الثالث، ولكنني على يقين بأن من يقرأ المقال حتى النهاية سيؤيدني على هذا العنوان الذي أطلقته على أمريكا، فكَمَا يقول المثل: “إذا عُرف السبب بَطل العجب".

 

وبالطبع هنا لا أتحدث عن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية في مجال المعلومات، أو التقانات والأجهزة الحديثة، أو تفوقها على دول العالم أجمع في المجالات العسكرية، أو ريادتها في غزو الفضاء واكتشاف أعماقها السحيقة والخفية وسبر غور أسرار الكَوْن البعيد، وإنما أتحدث هنا عن مجالٍ لا نفكر فيه أبداً، ولم يعرفه معظم المواطنين الأمريكيين، ولكن الكوارث والصُدف هي التي كشفت المستور، وأزالت الستار عن ما كان يخفى على المواطن، فكشفت عورة أمريكا للمواطنين بالداخل، وأظهرت سوءتها للناس أجمعين في الخارج.

 

ودعوني أُحيي ذاكرتكم بالكارثة الصحية البيئية التي كَتبت عنها عدة مرات، وبَيَّنتُ أبعادها وتهديداتها للصحة العامة في إحدى مدن الولايات المتحدة الأمريكية، وتتلخص هذه الطامة الكبرى التي نزلت على أمريكا في رغبة المسئولين في مدينة فلينت(Flint) في ولاية مشيجان إلى التقشف في المصروفات وخفض الاستهلاك العام وتوفير المال بسبب إفلاس مدينتهم، فقاموا بتحويل مصدرِ مياه الشرب لسكان المدينة من مدينة ديترويت البعيدة عنها إلى المصدر الأرخص ثمناً، وهو نهر فلينت الذي يجري في قلب المدينة، دون الأخذ في الاعتبار جودة هذه المياه ونوعيتها وتأثيراتها الصحية والبيئية على سكان المدينة.

 

ومع الوقت تبين أن هذه المياه التي دخلت كل منزل وشربها يومياً ولعامين أكثر من مائة ألف إنسان أنها ملوثة ومسمومة، فرائحتها عفنة، ولونها برتقالي مائل إلى الصفرة، وطعمها غير مستساغ، بل وأكدت الدراسات المخبرية أن هذا الماء ملوث بعنصر الرصاص، وأن الكثير من أطفال المدينة تشبعت دماؤهم وأجسامهم بهذا الملوث الخطير وتراكمت في عظامهم، كما أن حيوانات المدينة، وبالتحديد الكلاب لم تسلم أيضاً من التسمم بالرصاص.

 

ويُعزى السبب الرئيس في وقوع هذا الكَربْ العظيم في استخدام أنابيب الرصاص القديمة التي أَكَل عليها الدهر وشرب، وعفا عليها الزمن في نقل وتوصيل المياه إلى المنازل، مما أدى إلى تآكل الأنابيب مع الزمن وترشح الرصاص السام إلى هذه المياه وتراكمه في أجسام البشر، وبخاصة الأطفال.

 

فاستخدام أنابيب الرصاص في توزيع المياه انقضى زمانها، وذهب أوانها منذ منتصف القرن العشرين، وأصبحت من الأدوات المتأخرة التي استبعدتها الدول المتقدمة، بما في ذلك الكثير من الدول النامية ودول العالم الثالث، فقد أَجْمَع العلماء على انتهاء صلاحية أنابيب الرصاص من الناحيتين البيئية والصحية، وأكد الأطباء على الأضرار الكبيرة التي تنجم عن استخدامها، ولذلك نحن في البحرين استبدلنا منذ التسعينيات من القرن المنصرم الأنابيب الضارة بصحة الإنسان، وبالتحديد أنابيب الأسبستوس، وتحولنا إلى الأنابيب المصنوعة من الحديد المطاوع والمحْمِيَّة من الداخل بالإسمنت، وهذه تُعد من أحدث التقنيات وأكثرها أمناً في نقل المياه إلى المنازل.

 

فكارثة مدينة فلينت أيقظت أمريكا مرة ثانية، وأحيت لديها الذكريات المؤلمة القديمة، فارتفعت تحذيرات العلماء من جديد، وتَعالت صيحات المواطنين ورجال الإعلام على استخدام هذه الوسيلة الرجعية القديمة والضارة. وجدير بالذكر أن مدينة فلينت ليست هي المدينة الوحيدة التي تعيش في ظلمات العصور السابقة، وإنما هناك مدناً أمريكية كثيرة مازالت متأخرة عن ركب التقدم والتطور، ومازالت تستخدم تقنيات القرون الوسطى المتمثلة في أنابيب الرصاص لنقل مياه الشرب. 

 

وسيبقى الكثير من المواطنين الأمريكيين يعانون من هذه الكارثة لسنواتٍ طويلة قادمة، وستظل أمريكا في نظري من دول العالم الثالث في هذا المجال، فالحكومة الأمريكية الاتحادية لا تعتبر صحة الإنسان وسلامة البيئة قضية ذات أولوية في التنفيذ، ولذلك قامت بخفض الميزانية السنوية لمكتب مياه الشرب التابع لوكالة حماية البيئة بنسبة 15% منذ عام 2006، مما يعني أن هذا الجهاز المسئول عن توفير مياه الشرب السليمة والنظيفة للمواطنين لن يتمكن من استبدال كل أنابيب الرصاص القديمة بأخرى حديثة.

 

والآن هل تتفقون معي على أن أمريكا، بناءً على هذه الحالة تُعد من دول العالم النامي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق