الأربعاء، 17 فبراير 2016

عميلٌ لن يموت


العملاء والجواسيس من البشر سيذوقون طعم الموت عاجلاً أم آجلاً، وسيلقون حتفهم بطريقةٍ أو بأخرى، ولكن عميلنا اليوم سيبقى خالداً مخلداً في الأرض لن يموت، وتبقى آثاره ماثلة أمامنا فتظهر بين الحين والآخر لتكشف عن وجوده بيننا، فيُذكر الإنسان بأنه حي يُرزق.

 

فمن هذا العميل الذي لا يموت؟

 

هذا العميل أُنتج في الولايات المتحدة الأمريكية، وصُمم في معاملها ومختبراتها، ثم في مصانعها العملاقة، وتم تسليمه إلى الجيش الأمريكي ليؤدي دوراً محدداً ويقوم بمهمة سرية خاصة، حيث تمثلت مهمة هذا العميل في القضاء على الفيتناميين أثناء حرب أمريكا في فيتنام في مطلع الستينيات من القرن المنصرم، وذلك من خلال طريقتين، الأولى هي إفساد وتخريب المحاصيل الزراعية التي يَقْتات عليها المقاتل الفيتنامي، أي تجويعه وحصاره في مصدر غذائه وأكله، والثانية القضاء التام على الأدغال الكثيفة التي يحتمي فيها ويتوارى عن عيون الطائرات الأمريكية، إضافة إلى تدمير الغابات الفطرية والحشائش العالية التي يعيش فيها.

 

وبعد الانتهاء من تصنيع هذا العميل، تم تخزينه في براميل خاصة ووضِعتْ عدة خطوط ملونة على هذه البراميل، منها اللون البرتقالي، فأُطلق عليه منذ ذلك الوقت، أي قبل نحو ستين عاماً بالعميل البرتقالي، ثم تَم شحنه إلى ساحة المعركة مباشرة ليقوم بمهمته الهجومية القتالية، وبالتحديد إلى قاعدة دان انج الجوية في فيتنام(Da Nang Air Base)، أو إلى قاعدة كادينا الجوية(Kadena Air Base) في جزيرة أوكيناوا(Okinawa) اليابانية التي كانت ترضخ تحت وطأة الاحتلال الأمريكي.

 

وهذا العميل عبارة عن مبيدات سامة تقتل الأعشاب وكافة أنواع الأشجار وتدخل ضمن الأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً، وعلاوة على ذلك فإنه عند إنتاج هذا العميل دخلت معه أثناء عملية التصنيع ملوثات أخرى خطرة جداً تُعتبر من أشد الملوثات سمية وهلاكاً للبشر والشجر والحجر يُطلق عليها الديكسين، كما تكمن خطورتها في أنها إذا دخلت في مكونات البيئة من هواءٍ وماءٍ وتربة فإنها تُقاوم التحلل الطبيعي الذي يحدث عادة للملوثات العضوية، أي أنها تبقى ثابتة ومستقرة في أي مكانٍ دخلت فيه، سواء البيئة، أو جسم الإنسان والحيوان والنبات، وتنتقل بكل حرية عبر السلسلة الغذائية من منطقة إلى أخرى، فهي بذلك ستبقى مخلدة في الأرض سنواتٍ طويلة لا تموت.

 

ولذلك بعد أن تم رش قرابة 76 مليون لتر من هذا العميل، أصبح جزءاً لا يتجزأ من تلك البيئة، ودخل مع السلسلة الغذائية حتى بلغ جسم الإنسان، والآن وبعد زهاء 60 عاماً، وبعد أكثر من أربعة أجيال متلاحقة من البشر، مازال هذا العميل ينبض بالحياة، فهو موجود في دماء وأعضاء جسم الناس من الأطفال، والشباب، والشيوخ، حتى الأجنة في بطون أمهاتهن، كما أن هذا العميل حي ليس في بيئة وأجسام الفيتناميين الذين تعرضوا مباشرة للقصف الأمريكي من هذا العميل، وإنما في أجسام عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين أنفسهم الذي عملوا في مجال رش العميل من الطائرات، أو شحن وتفريغ براميل هذا العميل البرتقالي والمعدات والأجهزة التي كانت تستخدم في الرش، أو حتى الجنود الذين قاموا بدفن البراميل الفارغة في فيتنام، أو في العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في جزيرة أوكيناوا اليابانية.

 

ونظراً لتغلغل هذا العميل بعمق في البيئة وأجسام البشر على مدى ستة عقود والانعكاسات البيئية والصحية التي هددت الملايين من البشر، فقد قام المتضررون من هذا العميل بتأسيس جمعية عام 2005، أُطلق عليها "جمعية ضحايا العميل البرتقالي"، وتهدف إلى تثقيف المواطنين ورفع درجة وعيهم بخطورة الديكسين ومساعدتهم على رفع دعاوى لتعويضهم عن الأمراض التي يعانون منها، حيث أكدت وزارة الصحة الفيتنامية بأن هناك نحو 17 نوعاً مختلفاً من الأمراض مرتبطة بالعميل البرتقالي مثل سرطان البروستات، والرئة، والسكري من النوع الثاني. وفي المقابل هناك الجنود الأمريكيون الذي مازالوا حتى يومنا هذا يرفعون قضايا ضد الحكومة الأمريكية لتعويضهم عن معاناتهم من الأسقام التي لحقت بهم، ومنهم الجندي الذي كان يعمل في جزيرة أوكيناوا وتعرض لهذا العميل فأصيب بسرطان البروستات وأمراض القلب، حيث وافق البنتاجون في أغسطس 2015 بتعويضه مالياً.

 

وستأتي الأيام والسنون القادمة لتشهد لنا المزيد عن تداعيات هذا العميل الذي لا يموت.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق