السبت، 6 فبراير 2016

مع ظاهرة اختفاء البحيرات، فهل سيكون خليج توبلي منها؟


ظاهرة جديدة وفريدة من نوعها بدأت تنكشف خيوطها منذ مطلع القرن العشرين في بعض دول العالم،  وتتضح ملامحها وأسبابها أكثر يوماً بعد يوم، حتى تحولت هذه الظاهرة الغريبة إلى واقعٍ يوميٍ مشهود لا يمكن تجاهله، أو غض الطرف عنه، فأبعاده السلبية شملت ملايين البشر، وأثَّرتْ على معاشهم ومورد رزقهم اليومي، وتعدت أضرارها فغطت مساحات واسعة من الكرة الأرضية.

 

وأصبحت هذه الظاهرة الآن كالمرض المعدي الذي ينتقل من إنسان إلى آخر، أو من مدينةٍ إلى مدينة أخرى حتى ولو كانت تبعد عنها آلاف الكيلومترات، ففيروسات هذا الداء العُضال بدأت تنتشر كانتشار النار في الهشيم، وتزداد ضراوتها على البيئة والإنسان مع الوقت.

 

فأول بذرةٍ خبيثة غُرست في الأرض وأدت إلى انكشاف هذه الظاهرة كانت أيام الاتحاد السوفيتي ورغبتهم في تكوين إمبراطورية زراعية مُعتمدة على "الذهب الأبيض" أو القطن، فشقوا قنواتٍ وأخاديد عظيمة في وسط صحراء كازاخستان(Kazakhstan) الجرداء القاحلة في الخمسينيات من القرن المنصرم، بلغ طولها أكثر من من 47 ألف كيلومتر، وتم ملء هذه القنوات بالمياه العذب الزلال بعد تحريف مجرى نهرين كبيرين هما آمو دريا(Amu Darya) وسير دريا(Syr Darya)، واللذان كانا يُغذيان بحيرة آرال(Aral Sea)بالماء النقي الفرات السائغ شرابه، فكانا بمثابة الشريان الدموي الذي يمد قلب البحيرة بالدم والحياة، فيستمر نبضه وقوته، وتستديم حياة قرابة 60 مليوناً من البشر والحياة الفطرية في تلك المنطقة المزدهرة بالحياة.

 

فبحيرة آرال كانت رابع أكبر بحيرة مثمرة ومنتجة في العالم، فمساحتها قرابة 68 ألف كيلومتر مربع، أي  أكبر من مساحة البحرين بنحو 93 مرة، ومع الوقت، ومع استنزاف الملايين من الجالونات يومياً من مياه النهرين للأراضي الزراعية، انخفضت أحجام المياه التي تصل إلى قلب البحيرة، حتى أخذ قلبها يضعف رويداً رويداً، وبدأت عروقها تجف وتصطلب ونبض القلب يضطرب ويخف يوماً بعد يوم، فوصل إلى درجة حرجة اضطرت الأطباء إلى إدخالها إلى غرفة الانعاش وتركيب الأجهزة الصناعية عليها لإعادة نبضها وضخ الدم إلى شرايينها.

وبالرغم من هذه العمليات الجراحية الطارئة التي أُجريت عليها إلا أن هذه البحيرة العظيمة تحولت الآن إلى مستنقعات مائية آسنة متشتتة ومتفرقة وغير مترابطة ولا تزيد مساحتها عن تسعة آلاف كيلومتر مربع فقط، أي فقدت نحو 90% من جسمها الحي، حتى أن البعض من هذه البحيرات الصغيرة نضب ماؤه كلياً، فجفَّ وتصحر، وماتت معه كافة أنواع الحياة البرية والمائية وتعطلت مصالح الملايين من البشر الذين عاشوا أجيالاً متلاحقة على خيرات وثروات هذه البحيرة.

 

ثم نَحط الرِحال ثانية على بحيرة أخرى وفي قارة ثانية وهي بحيرة بووبو(Lake Poopo) المالحة التي كانت ثاني أكبر بحيرة في بوليفيا في قلب قارة أمريكا الجنوبية، فمساحتها أكبر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع وتقع في أعالي السماء على ارتفاع أكثر من 12 ألف قدم، وهي الآن تلقى نحبها، وتنتقل إلى مثواها الأخير، وتَجُر معها عشرات الآلاف من البشر الذين اعتمدت حياتهم اليومية ورزقهم وقوت أهليهم عليها، وتحولوا الآن إلى لاجئين يمدون أيديهم إلى الناس طلباً للمساعدة، فاليوم دخلت البحيرة ضمن قائمة البحيرات المنقرضة ولن تقرأ عنها الأجيال القادمة إلا في كتب التاريخ.

 

أما محطتنا الثالثة فهي قريبة منا، وبالتحديد في بحيرة أروميه(Lake Orumieh) الواقعة بين مدينتي تبريز(Tabriz) وأورميه في منطقة أذربيجان الصحراوية شمال غرب إيران على الحدود التركية، فالكارثة نفسها قد وقعت هناك أيضاً، فهذه البحيرة المالحة التي تبلغ مساحتها قرابة 5200 كيلومتر مربع، والتي تُعتبر من أكبر البحيرات على وجه الأرض، وتم تسجيلها ضمن قائمة اليونسكو للمحميات الحيوية، قد أوشكت الآن على الانقراض وفقدت زهاء 60% من مساحتها.

 

والآن أَشُد الرحال للذهاب إلى محطتنا الرابعة والأخيرة وهي موجودة في عقر دارنا ونشاهدها كل يوم ونسير بالقرب منها، ولكن لا أجد من يتحسس معاناتها، ولا أجد من يشعر بآلامها وبما تمر بها من فسادٍ يومي لأعضاء جسمها، وخسارةٍ لمساحتها، ودمارٍ لشرايينها، بحيث أصبحت تهدد بقاءها واستدامة حياتها، وهذه المحطة هي خليج توبلي.

 

فهذا الخليج يقاسي من الظروف نفسها التي أدت إلى تدهور وانقراض البحيرات التي تحدثتُ عنها، فهل لخليج توبلي المناعة القوية التي تمنعه من السقوط في الهاوية التي لحقت باقي البحيرات، أم أن مناعته ستضعف مع الزمن ولن يتمكن من مقاومة الضغوط المستمرة عليه، فيَلقى المصير نفسه؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق