الجمعة، 20 مايو 2016

إنها كارثةٌ من صُنعِ البشر



بالرغم من الازدحام الشديد لجدول أعمال أوباما، رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، وبالرغم من أشغاله التي لا تنتهي، واهتماماته الكثيرة التي لا تُعد ولا تحصى، وبرامجه الكثيفة على المستوى القومي والإقليمي والدولي، فبالرغم من كل ذلك، إلا أن الرئيس الأمريكي تَرَكَ كل هذه الهموم الثقيلة جانباً، وابتعد قليلاً عن القضايا المصيرية العظمى التي تعاني منها أمريكا في الداخل والخارج وذهب إلى مدينةٍ صغيرة نائية غير معروفة ومهمشة ولا يمكن رؤيتها على خارطة هذه الدولة العظيمة، وليست لها أية أهمية سواء على مستوى الولاية التي تقع فيها، أو على المستوى القومي، كما أنها ليست لها أية أهمية انتخابية، ولا يوجد فيها كِبَار القُوم، من رجال السياسة والمال والنفوذ، فقد ترك أوباما كل هذا وراء ظهره، وركب طائرته متوجهاً إلى هذه المدينة الفقيرة المستضعفة من أجل قضية بيئية صحية مزدوجة، فقد انتقل أوباما إلى هناك بسبب اكتشاف أحد الملوثات الخطرة التي تهدد الصحة العامة في مياه الشرب في هذه المدينة الصغيرة القليلة العَدد والعُدة، ومعظمها من الــمُعْدمين السود، حيث يبلغ إجمالي عدد السكان قرابة مائة ألف نسمة.

فلولا أهمية هذه القضية وأبعادها البيئية، والصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولولا الجوانب السياسية والأمنية التي انكشفت عنها علاوة على الجوانب الأخرى لما شَدَّ أوباما الرحال للاطلاع ميدانياً على مخاطرها وتهديداتها لحياة الإنسان ونوعية البيئة التي يعيش فيها، وبخاصة مياه الشرب التي لا حياة بدونها، حتى أن أوباما عندما حَطَّت رِحاله أرض المدينة في الرابع من مايو من العام الجاري ألقى خطاباً وصف فيه القضية بأنها "كارثة من صنع الإنسان، وكان يمكن تجنب وقوعها، وكان يمكن منعها"، أي أنه أعطى تصنيفاً خطيراً وعالياً لهذه القضية بوصفه لها بأنها "كارثة".

وهذه الكارثة لما كانت قد تقع لولا سوء إدارة الإنسان لمكونات بيئته، وقُصور نظرته، وضيق أفق سياسته ومحدوديتها، ورؤيته إلى شؤون البيئة ومشكلاتها بأنها لا أهمية لها ويمكن تجاهلها وتهميشها، إضافة إلى وضع الإنسان لهموم البيئة في أدنى سلم الأولويات وفي مؤخرة جدول الأعمال.

فالبذرة الخبيثة الأولى التي وُضعت في الأرض وسببت هذه الكارثة تكمن في رغبة المسئولين في مدينة فلينت(Flint) في ولاية مشيجان إلى التقشف في المصروفات، وخفض الاستهلاك العام وتوفير المال بسبب إفلاس مدينتهم وتدني إمكاناتهم المادية، فقاموا باتخاذ إجراءٍ بسيط يتمثل في تحويل مصدرِ مياه الشرب لسكان المدينة من مدينة ديترويت البعيدة عنها إلى المصدر الأرخص ثمناً، وهو نهر فلينت الذي يجري في قلب المدينة، دون الأخذ في الاعتبار جودة هذه المياه ونوعيتها، وتأثيراتها الصحية والبيئية على سكان المدينة، أي أن القرار الذي تم اتخاذه بُني فقط على جانبٍ واحد هو الجانب الاقتصادي البحت دون النظر إلى تداعيات هذا القرار على الجانب البيئي والصحي والأبعاد الأخرى ذات العلاقة.

وتبين مع الوقت أن المياه التي يشربها سكان المدينة ملوثة بواحدة من أخطر المواد الكيميائية التي عرفها الإنسان منذ القدم، وهو الرصاص، والأمر الذي نَقلَ هذه المشكلة وحولها من قضيةٍ بسيطةٍ تتمثل في تلوث مياه الشرب إلى "كارثةٍ بشريةٍ" هَزَّت الرئيس الأمريكي نفسه فأعلن حالة الطوارئ الاتحادية، هو تشبع دماء وعظام وأعضاء جسم سكان المدينة، وبخاصة الأطفال بهذا العنصر السام الخطير الذي يُسبب إعاقات وتشوهات خَلْقِية في الإنسان، ويؤثر على مستوى الذكاء عند الأطفال ويضعف من قدراتهم العقلية والفكرية، كما يجعل سلوكياتهم مع الوقت أكثر عدوانية وتميل نحو ارتكاب أعمال الشغب والجرائم والعنف.

ولذلك فإنني أُحذر، كما حَذرتُ ونَبهتُ كثيراً من قبل، إلى عدم الاستهانة بأية مشكلةٍ بيئية مهما كانت تبدو صغيرة وتافهة، وضرورة عدم تجاهلها وغض الطرف عنها باقتراح حلولٍ "ترقيعية" قصيرة الأمد، لأن المشكلة البيئية البسيطة إذا أُهملت وتُركت دول علاجٍ جذري شامل، ستتحول مع الوقت إلى قضيةٍ مزمنة، وكارثة مدمرة ذات أبعادٍ أمنية وسياسية، وستكون غولاً عظيماً لا يمكن السيطرة عليه، ولا يمكن التكهن بعواقبها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق