الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

ما سِرْ تخصيص نحو بليونين دولار لمكافحة إدمان الشعب الأمريكي على المخدرات؟


أعلن البيت الأبيض في الرابع من سبتمبر من العام الجاري بتخصيص مبلغ مالي ضخم جداً يصل إلى 1.8 مليار دولار لدعم جهود الولايات الأمريكية الخمسين في مكافحة وباء إدمان الشعب الأمريكي على المخدرات، ومساعدة الحكومات المحلية على اجتثاث هذه الآفة القاتلة من جذورها من داخل كل أسرة أمريكية.

وفي الحقيقة فإن هذا الخبر جعلني أُفكر في آلية دعم الحكومة الفيدرالية الأمريكية للشعب الأمريكي عامة، وما هي الأسباب أو الدوافع التي تحفز وتحرك متخذ القرار في البيت الأبيض، وتشجع رجال السياسة والنفوذ في مجلس الشيوخ أو غيره من مراكز القوى واتخاذ القرار في أمريكا إلى توجيه الدعم المالي إلى قضية ما، أو جهة محددة على المستوى الاتحادي، أو مستوى الولايات.

ففي الأنظمة الديمقراطية، كالنظام الأمريكي، فإن رجال السياسة عامة لا تحركهم قناعاتهم وأخلاقياتهم ومبادئهم، وإنما يلهثون جرياً وراء آراء وتوجهات أغلبية الناخبين سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، وسواء اتفقت مع قناعاتهم أم لا، فعادة ما تكون قراراتهم وتصريحاتهم مبنية على رأي معظم أفراد الشعب، وبخاصة في موسم الانتخابات، سواء أكانت انتخابات رئاسية، أو على مستوى مجلسي الشيوخ والنواب، أو مستوى حكام الولايات.

فاستطلاعات الرأي والاستفتاءات التي تُجرى بشكلٍ دوري في قضايا محددة تهم الشعب، كقضية السماح للحشيش أو ما يُعرف في أمريكا بالماريوانا، هي التي تُوجه وتحرك مرئيات المرشحين للمناصب التشريعية أو التنفيذية في البلاد، وهي التي بالدرجة الأولى تُشكل البرنامج الانتخابي لهؤلاء المرشحين. فإذا كان الشعب، على سبيل المثال يريد إطلاق سراح الحشيش للاستعمال الشخصي والترفيه عن النفس، أو للاستخدام الطبي والعلاجي، فإن المرشح غالباً ما سيضع هذا التوجه الشعبي في الاعتبار عند صياغة آرائه وتصريحاته العامة، ولو كان ذلك ضاراً بالمجتمع الأمريكي وله مردودات صحية تنعكس على الشعب، أو انعكاسات سلبية تقع على البيئة وعناصرها الطبيعية الحية وغير الحية.

ولذلك نجد بأنه بالرغم من أضرار استخدام الحشيش المعروفة على الفرد والمجتمع، وبالرغم من اعتبار الحكومة الاتحادية بأن الحشيش مخدر مثل الهيروين والأفيون ويجرَّم من يحمله، أو يبيعه، أو يستخدمه، إلا أن المشرعين في الولايات، ورجال السياسة والنفوذ يُلبون رغبات الناس ونداءاتهم نحو السماح للحشيش للاستخدامات المختلفة، وهذه الولايات التي وافقتْ على تحليل الحشيش تزيد يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، حتى أن عدد الولايات التي سَمحتْ حتى الآن باستخدام الحشيش لأغراض شخصية وللترويح عن النفس بلغ 12 ولاية، في حين أن الولايات التي وافقت على الاستعمال الطبي وصلت إلى 33 ولاية، والبقية قادمة في القريب العاجل.

ولذلك عندما أقرأ إعلان حكومة ترمب بتخصيص قرابة بليونين دولار لمكافحة وباء صحي، وبالتحديد أزمة الشعب الأمريكي مع المخدرات والناجمة عن استخدام المخدرات عامة وحبوب الأفيون المسكنة للألم والمهدئة خاصة، فإنني أشك في الدافع الحقيقي من وراء هذا الدعم المالي الكبير، وأرى بأن هناك تناقضاً بيِّناً وصارخاً بين هذا التوجه المتمثل في مكافحة المخدرات، وبين التوجه الأمريكي العام الجديد والمتسارع في السماح للمخدرات، ممثلاً في الحشيش!

فقضية المخدرات في الولايات المتحدة الأمريكية ليست وليدة الساعة، وإنما هي قديمة وأخذتْ في التفاقم يوماً بعد يوم، وبدأت في الانتشار ساعة بعد ساعة منذ التسعينيات من القرن المنصرم، أي قبل نحو أكثر من ثلاثين عاماً، وكانت منذ ذلك الوقت تُعد قضية اجتماعية وصحية، أي أنها لم تتحول إلى قضية سياسية عامة، أو قضية انتخابية لكي يهتم بها متخذ القرار، أو رجال التشريع والنفوذ، ولذلك تم إهمالها وتجاهلها طوال سنواتٍ عجاف طويلة عانى منها الشعب برمته.

ومع الوقت انكشفت مظاهر جلية لهذه الأزمة القومية، وظهرت على شكل عدة صور مظلمة وقاتمة لم تخف على أحد، كما يلي:
 أولاً: الجرعة الزائدة من المخدرات هي السبب الرئيس لحالات الموت للشعب الأمريكي لمن دون الخمسين من العمر.
ثانياً: عدد الذين أُدخلوا أقسام الطوارئ من المراهقين والشباب بسبب المخدرات تضاعف خلال الخمس سنوات الماضية، وزاد من 52 لكل مائة ألف مريض إلى 97 في عام 2014.
ثالثاً: في عام 2016 قضى 63600 ألف أمريكي نحبهم بسبب الجرعة الزائدة، في حين كان العدد 52 ألف عام 2015.
رابعاً: انخفاض معدل عمر الإنسان الأمريكي للعامين الماضيين بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات وأسباب أخرى، حيث إن المعدل المتوقع لعمر الأطفال المولودين في عام 2016 انخفض إلى 78.6 سنة، ونسبة الموت ارتفعت 21%.
خامساً: في كل 25 دقيقة تضع المرأة الأمريكية مولوداً مُدمناً على المخدرات، مما يعني نشوء أجيالٍ متلاحقة من المواطنين الأمريكيين وهم يقعون تحت وطأة الإدمان منذ صغرهم، كما أفاد القائم بأعمال وزارة الصحة والخدمات الإنسانية لصحيفة الواشنطن تايمس في الرابع من ديسمبر 2018.
 سادساً: الكلفة المالية الحقيقية والفعلية لوباء المخدرات على ميزانية أمريكا بلغت 504 بليون دولار، حسب التقرير الصادر من مجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين في نوفمبر 2018.

فهذه المظاهر المؤلمة، والصور المأساوية التي دخلت كل بيتٍ أمريكي، وأثرت على كل أسرة أمريكية، فقيرة كانت أم غنية، ولأكثر من ثلاثة عقود، أدتْ إلى إثارة الرأي العام الأمريكي وانعكاسه على القادة السياسيين على كافة المستويات، مما اضطرهم رغماً عن أنوفهم إلى تبني هذه القضية العامة، وأجبرهم على السير مع هذه الموجة والركوب في فلكها، ولعب دور البطل في مكافحتها ومواجهتها من خلال تخصيص هذا المبلغ المالي، وبخاصة أننا على أبواب الانتخابات الرئاسية الأمريكية فالكل يريد صوت الناس، حتى أن المرشحة الديمقراطية للرأسة الأمريكية النائبة إليزابيث وارن من ولاية ماساشوستس زادت على المبلغ الذي خصصه ترمب، وكأنها في مزاد علني، واقترحت صرف مائة مليار دولار لعلاج هذا الوباء!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق