السبت، 7 سبتمبر 2019

بين حرائق الأمازون وحرائق الكويت



الحرائق الهائلة لغابات الأمازون في البرازيل التي لا مثيل لها على وجه الأرض، ونشهدها جميعاً بأم أعيننا منذ أكثر من شهرين، والأدخنة السوداء الداكنة المظلمة التي تتصاعد منها فتُحول النهار ليلاً وتغطي أشعة الشمس في ساعات الظهيرة الأولى وفي وضح النهار، كل هذه المشاهد المؤسفة أَحيتْ في مخيلتي ذكرى أليمة، وأيقظت في نفسي كوارث مؤلمة وعصيبة عانينا منها بشدة في الخليج، وأرجعت لي تاريخ الأيام الكئيبة المظلمة والمخيفة التي نزلت علينا. وهذه الذكرى الحزينة التي عصفت بنا قد لا يعرفها الجيل الجديد ولم يقرأ عنها، ولم يعاصرها من أعمارهم تقل عن ثلاثة عقود، بل وإن التاريخ لم يشهد لها مثيلاً، فينطبق عليها الوصف ما لا عَينٌ رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولن تكون هناك كارثة مماثلة لها في المستقبل من ناحية مصدر وسبب التلوث من جهة، وكمية ونوعية ومساحة انتشار الملوثات من جهةٍ أخرى. 

أما اشتعال الغابات الاستوائية المطيرة في البرازيل فآثارها البيئية والصحية نراها أمامنا من خلال الصور التي تُبث في كل وسائل الإعلام وفي صفحات التواصل الاجتماعي، فالملوثات السامة والأدخنة السوداء المظلمة التي تنبعث منها ليلاً ونهاراً قد أدتْ إلى توقف الحركة وإصابتها بالشلل التام في بعض الأيام، سواء أكانت الحركة المرورية الأرضية أم حركة الطيران الجوية من خلال إغلاق المطار، فمعظم وسائل المواصلات باتت مقيدة لا يمكنها التحرك من مكانها بسبب انعدام الرؤية، وبخاصة في المدن القريبة من لهب هذه الحرائق.

أما الذين يسكون بالقرب من هذه المواقع المنكوبة، فقد تعرضوا مباشرة لملوثات الحريق التي انبعثت من أكثر من 80 ألف منطقة تنشب منها ألسنة اللهب المرتفعة في أعالي السماء والتي انتشرت إلى مساحات شاسعة وكبيرة، ومن أشد الملوثات وطأة وأكثرها تنكيلاً بأعضاء جسم الإنسان هي الأدخنة السوداء، أو الجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم التي لها القدرة في الانتقال إلى أعماق الجهاز التنفسي، وبالتحديد الرئتين، فيُصاب الإنسان مباشرة بالتهابات حادة، وآلام شديدة في الصدر، وضيق في التنفس، وسيكون بحاجة فوراً إلى رعاية طبية عاجلة.

 أما الطامة الكبرى التي حلَّتْ بنا في الخليج وعكرت صفاء استقرار أمننا وسلامة بيئتنا، وأفسدت صحتنا وصحة الحياة الفطرية التي تعيش معنا، فقد تمثلت في احتراق أكثر من 600 بئرٍ نفطي في دولة الكويت أثناء حرب الخليج المشؤومة خلال الفترة من 22 يناير حتى نوفمبر 1991، فهي حسب كتب التاريخ تُعد أول حادثة من نوعها وستكون في تقديري حتماً الأخيرة. فالتاريخ لم يشهد من قبل حادثة مشابهة لهذه، بحيث يَتَعمد فيها إنسان بشكل مباشر وصريح ومع سبق الإصرار والترصد على إحداث تدميرٍ كامل، وقتل شامل لثرواتنا البيئية، والحاق الضرر والفساد بجميع عناصرها من ماء وهواء وتربة، وتهديد حياة جميع الكائنات الحية فيها بالخطر والموت المفاجئ والفوري.

فهناك الملايين من  البراميل من البترول التي كانت تحترق يومياً ولأشهر طويلة في دولة الكويت فتذهب هباءً منثوراً تنطلق إلى أعالي السماء، وهذه الآبار المحترقة احتوت على تراكيز مرتفعة من ثاني أكسيد الكبريت بسبب احتواء البترول الخام على الكبريت، كما انها كانت تتكون من الدخان الأسود والذي هو عبارة عن كربون ومواد هيدروكربونية غير محترقة ورماد وأكاسيد بعض الفلزات مثل النيكل والفانيديوم، كذلك احتوت على غازات أكاسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكربون وبعض المركبات العطرية متعددة الحلقات والتي من أخطرها البنزوبيرين المسبب للسرطان.

وكل هذه الحرائق والملوثات السامة والمسرطنة التي انبعثت منها، تحولت إلى مظاهر وصور حية نُقشت في قلبي ولا يمكن أبداً أن أنساها ما دُمتُ حياً. فمن بين المظاهر التي صاحَبتْ حرق الآبار النفطية، هي الهواء الرمادي والأمطار السوداء الدهنية اللزجة التي نزلت على معظم دول الخليج، بل ووصلت إلى باكستان والهند وجبال الهملايا، وبالتحديد المطر الأسود الذي سقط على سواحل إيران في 23 يناير و 17 فبراير 1991، والتي تبعد نحو 250 كيلومتراً عن الكويت، والذي سقط أيضاً على البحرين خلال الفترة نفسها.

فمازلتُ أتذكر في ذلك اليوم الحزين الذي غابت عنه الشمس عند ساعات الظهيرة الأولى فتحول النهار ليلاً كالحاً مظلماً، وكُنت قد خرجتُ لتوي من المسجد من صلاة الظهر، وإذا الأمطار السوداء الكئيبة تسقط علينا، فحولت قطرات ماء المطر السوداء ثوبي الأبيض إلى بقعٍ سوداء داكنة.

كذلك من المشاهد الحية التي لا مثيل لها في التاريخ البشري ورأيتُها بنفسي في عدة مناسبات بعد توقف الحرب، والتي ربما آثارها وبصماتها وتداعياتها العقيمة مازالت موجودة حتى يومنا هذا، وبعد أكثر من 28 عاماً على وقوعها، هي البحيرات النفطية الكثيفة والعميقة التي تكونت وانتشرت في عمق الصحراء الكويتية نتيجة للتسرب النفطي الأرضي من حرق هذه المئات من الآبار النفطية. فهذه البحيرات كانت لها أضرار بيئية لم يتوقعها أحد، فقد غيَّرت كلياً من النظام البيئي الصحراوي في تلك المنطقة، من حيث قتل الكائنات البرية بشكلٍ فوري ومباشر، وتلويث التربة وتغيير هويتها ونوعيتها من سطح التربة إلى أعماق كبيرة تحت السطح، كما إن هذه البحيرات النفطية قتلت وأثرت على الكثير من الطيور المائية التي كانت تعيش في تلك المناطق الساحلية.

أما من ناحية التأثيرات الصحية على النفس البشرية وعلى أعضاء الجسم، فقد أُجريت الكثير من الدراسات الميدانية لمعرفة الآثار السلبية التي نجمت عن حرق الآبار، حيث أشار بحث أُجري على ألفي شخص في الكويت في تلك الفترة إلى أن 50% منهم مصابون بمرض ضيق التنفس، وأن أغلبهم من سكان المناطق الجنوبية، كما أكدت الدراسة إلى أن هناك سلبيات أخرى ستظهر بعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن، وفي البحرين انكشفت عدة مظاهر لم تكن موجودة من قبل مثل الأغنام التي وضعت أجنةً مشوهة خَلقياً ،كالتي وضعت أجنة لها خمسة أرجل، أو لها أطراف غريبة، أو أوجه مشوهة عجيبة، كما أكد بعض الفلاحين عن حدوث تغييرات في الأشجار المزروعة في مزارعهم، كذلك هناك دراسات أشارت إلى ازدياد أعداد المترددين على قسم الطوارئ أثناء فترة حرق الآبار وهم يعانون من مشكلات حادة في الجهاز التنفسي.

ولذلك في تقديري وعند المقارنة بين حرائق الأمازون وحرائق آبار البترول في الكويت، فإن ما وقع علينا في الخليج لا يمكن مقارنته بأية كارثة بيئية وصحية في التاريخ، وأتمنى أن لا تغيب عن مخيلتنا، فنتذكرها دائماً ونعتبر منها ومن دروسها القاسية.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق