الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

شركات نَمتْ وانتعشتْ على حساب البشر


في كل يوم أقرأُ عن حالاتٍ جديدة وأمثلة حية أخرى أُضيفها إلى الأمثلة التي ذكرتُها من قبل في مقالات سابقة، لأُثبت لكم حقيقة واحدة فقط أبحث في أسرارها منذ أكثر من عشر سنوات، وهي أن هناك "ثقافة" أصيلة متجذرة في أعماق الشركات الكبرى المساهمة متعددة الجنسيات، وتتمثل في تحقيق الربح السريع والكبير لإرضاء المساهمين، ولو كان هذا النمو والتقدم على حساب صحة البشر، أو أمن البيئة وسلامتها، أو كان تحقيق هذا النجاح والثراء المالي الفاحش بالطرق الشرعية القانونية، أو بالوسائل الشيطانية الماكرة وتضليل الأمم والشعوب.

واليوم أقفُ أمام مثالٍ جديد تُقدمه لي المحاكم الأمريكية، وبالتحديد محكمة في ولاية أوكلاهوما، حيث إنها كانت تُقاضي ثلاث شركات للأدوية والعقاقير وهي جونسون و جونسون، وشركة تيفا الإسرائيلية للأدوية(Teva Pharmaceutical Industries Ltd)، وشركة بيردو فارما(Purdue Pharma)، والتي جميعها ساهمت بشكل ملموس ومشهود في نشر الأدوية المسكنة والقاتلة للألم، وكان لها دوراً تدميرياً في إفساد صحة الشعب الأمريكي خاصة وشعوب العالم عامة، وجعله أسيراً قابعاً في قفص الإدمان، أو لاقياً حتفه مبكراً بسبب الجرعات المفرطة والزائدة.

فهذه المحكمة تُعد أول محكمة أمريكية تنجح ولأول مرة في تاريخ صناعة الأدوية في 26 أغسطس من العام الجاري في فرض غرامة مالية عظيمة على شركة جونسون و جونسون العملاقة تبلغ 572 مليون دولار، وذلك لاتهامها بأنها كانت الوقود المستمر الذي يُغذي أزمة إدمان الشعب الأمريكي على المخدرات، وبخاصة الإدمان على الأفيون وحبوب الأفيون وغيرها من مسكنات الألم. فقد استطاعت المحكمة التوصل إلى نتيجةٍ خلاصتها بأن هذه الشركة  الجشعة كانت تُروِّج وتسوق لأكثر من عشرين عاماً لهذه الحبوب المدمنة والقاتلة المستخلصة من الأفيون(opioids)، وكانت طوال هذه السنوات العجاف تُضلل الشعب الأمريكي وشعوب العالم أجمع بالادعاءات الخاطئة، وباستخدام كافة الوسائل والأساليب الدعائية المغرية لنشر منتجها، وتجنيد كافة مرتزقيها لتوزيعها على كل صيدلية في كل شبرٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى كل مستشفى أو عيادة خاصة أم حكومية، حيث إنها كانت تبيع هذه المسكنات للألم وتُشيع بأنها آمنة، وفاعلة جداً في إسكات الألم، وتدعي بأنها لا تؤدي في الوقت نفسه إلى الوقوع في شباك الإدمان المهلكة والمدمرة للعقل والنفس والجسم، كما إن هذه الشركة كانت تُبالغ على أسس غير علمية وغير طبية موثوقة قُدرة هذه الحبوب على إطفاء نار الألم.

 وجدير بالذكر فإن هذه الغرامة الأولية ليست هي نهاية المطاف بالنسبة لحكم المحكمة، وإنما هي البداية لتعويضات عظيمة أخرى يجب أن تدفعها هذه الشركة لاحقاً لتغطية كلفة علاج المرضى والمدمنين، ومنع الوقوع في الجرعة الزائدة التي تؤدي إلى الهاوية، إضافة إلى دعم جهود منع هذا الوباء، علماً بأن ولاية أوكلاهوما تطالب بمبلغ مالي أعلى بكثير ويصل إلى 17 بليون دولار.

كما أن هذه الغرامة المالية التاريخية لم تأت من فراغ وإنما كانت نتيجة لهذا الوباء العصيب الذي انتشر في المجتمع الأمريكي، بل وفي كل بيتٍ أمريكي صغيرٍ أم كبير، كانتشار النار في الهشيم، والإحصاءات الرسمية والتقارير تؤكد على واقعية هذه الظاهرة التي ضربت أطنابها بعمق فطرقت باب كل أسرة أمريكية، مهما كانت غنية أم فقيرة، متعلمة أم جاهلة، مما استدعى التدخل السريع للبيت الأبيض وإعلان حالة الطوارئ الصحية في البلاد.

فقد أكدتْ الإحصاءات على مستوى ولاية أوكلاهوما فقط أنه قد تم بيع 18 مليون من حبوب الأفيون في ولاية أوكلاهوما خلال 3 سنوات، كما أكدت التقارير بأن 4653 أمريكياً من الولاية قد قضوا نحبهم بسبب هذه الحبوب المسكنة والمخدرة خلال الفترة من 2007 إلى 2017. كما أفادت تقارير مراكز منع والتحكم في المرض أن نحو 400 ألف على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية قد نُقلوا إلى مثواهم الأخير بسبب الجرعات المفرطة من حبوب الأفيون في الفترة من 1999 إلى 2017، وأما في 2018 فقط، فقد تم دفن 12757 أمريكياً نتيجة للجرعة الزائدة. 

أما بالنسبة لشركتي تيفا الإسرائيلية للأدوية، وشركة بيردو فارما التي تصنع الحبوب المسكنة للألم(OxyContin) منذ عام 1996، فقد أعلنتا استسلامهما فوراً، ورفعتا العلم الأبيض قبل البدء في المحاكمة، ووافقتا على تسوية خارج أروقة المحاكم بمبلغ وقدره 85 مليون دولار، و270 مليون دولار، على التوالي. 

والقضية الكبرى لإدمان الشعب الأمريكي على المخدرات لم تنته عند هذا الحد، فهناك الآن طوفان جارف من القضايا المشابهة في أروقة محكمة اتحادية في مدينة كليفلند بولاية أوهايو تصل إلى نحو 2000 قضية يمثلون 48 ولاية، ولذلك ذكرت عدة تقارير إعلامية منشورة في 27 أغسطس من العام الجاري منها المحطة الإخبارية الـ إِنْ بِي سِي وصحيفة الواشنطن بوست بأن شركة بيردو فارما تريد أن تستبق قرار المحكمة، كما فعلت من قبل، فتصل إلى تسوية خارج المحاكم بمبلغ يتراوح بين 10 إلى 12 بليون دولار لحل جميع القضايا الأخرى المرفوعة ضدها حول دورها في انتشار وباء الأفيون في المجتمع الأمريكي وتحقيق الثراء الفاحش من ورائها.

وهذه القضية الكبرى المتعلقة بالحبوب المسكنة والمخدرة تُرجعني إلى الوراء قبل 21 عاماً، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فهي تذكرني بالقضية الكبرى الأولى في تاريخ أمريكا، والمتعلقة بشركات السجائر القاتلة للبشر واتهامها بالكذب وتضليل الشعب الأمريكي ودورها في مرض وموت الملايين من المدخنين وجني الثروات المالية على حساب صحة البشر، حيث توصلت شركات التبغ العملاقة في عام 1998 إلى تسوية عامة مع 46 ولاية أمريكية، وخلال عشرين عاماً دفعت هذه الشركات نحو 125 بليون دولار لهذه الولايات.
فبالرغم من كل هذه الأمثلة الواقعية الحية التي نراها بأعيننا أمامنا، مازالت هناك شركات عائلية أو عامة تسعى فقط وراء الربح المادي السريع والكبير دون الاعتبار لصحة الناس، ودون الاعتبار لحاجة الناس المادية، ودون أي اعتبار لأمن وسلامة بيئتنا، فالهدف أولاً وأخيراً هو المال، ونتيجة ذلك أيضاً نراها أمامنا وهي السمعة السيئة، والإفلاس، أو الانتحار والزج في السجون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق