الاثنين، 9 سبتمبر 2019

بعد مائة عام مازالت مَوْرُوثاتْ ميري كوري مشعة!


ماري كوري(Marie Curie) هي العالمة والباحثة البولندية الفرنسية التي حققت الكثير من الأرقام القياسية خلال عمرها الذي استمر 67 عاماً، فهي أول امرأة تنال جائزة نوبل، وهي الشخصية الوحيدة التي نالت جائزة نوبل في تخصصين مختلفين، هما الفيزياء والكيمياء، وهي أول من سبر غور ظاهرة الإشعاع بشكلٍ عام وقدَّمت التفسير العلمي الصحيح لانبعاث الإشعاعات من العناصر المشعة، وهي من اكتشفت عنصرين مشعين هما الراديوم والبولونيوم، وكانت الرائدة في تطوير استخدام العناصر المشعة في العلاجات الطبية  كاستخدام الراديوم المشع لعلاج مرضى السرطان، كما إنها طورت جهاز الأشعة السينية، أو المعروف بأشعة إكس، وهي أول من حصلت على درجة الأستاذية(البروفيسور) من جامعة باريس.

كل هذه الاكتشافات العظيمة والإنجازات الفريدة حققتها جزئياً في المختبر الذي قامت بتأسيسه في 1925 جامعة باريس ومعهد باستير في الحي اللاتيني في قرية (Arcueil) جنوب باريس، حيث كانت تعمل في معهد الراديوم، وهذا المختبر مازال موجوداً في مكانه ولم يطرأ عليه أي تغيير، ولكن السلطات الفرنسية الصحية وضعتْ الشمع الأحمر على أبواب المختبر في 1978، وأغلقت كلياً الشارع المؤدي إلى المختبر عن المشاة والسيارات، كما قامت بإنشاء جدارٍ خرساني مرتفع حول المختبر، ووضعت الأسلاك الشائكة فوقها، إضافة إلى وضع كاميرات المراقبة والاستكشاف المستمرة.

فما هو سر قيام هذه الجهة المعنية بالصحة بكل هذه الإجراءات الصارمة والاحتياطات المشددة، وكأنه موقع أمني، أو ثكنة عسكرية لا يقترب منها أحد؟

ويرجع السبب في اتخاذ مثل هذه الإجراءات الأمنية في أن أبحاث هذه العالمة الفذَّة كانت تدور حول استخلاص العناصر المشعة مثل الراديوم من المواد الخام، ولذلك فقد كانت تتعامل يومياً مع الإشعاع والمواد المشعة، مما أدى إلى تلوثٍ إشعاعي شمل المختبر برمته، من الأوراق، والملفات، والكتب، والأثاث، حتى أن الملوثات الإشعاعية ضربت أطنابها في كل ما هو موجود في المختبر، وفي هواء المختبر في الداخل وفي المنطقة المحيطة به، وفي التربة والنباتات المزروعة حول المختبر، وعندما تم اكتشاف هذه الظاهرة البيئية الصحية المرضية تم إغلاق المختبر وتثبيت إجراءات الأمن والسلامة من الإشعاع. ومن هذه الإجراءات الدورية القيام بتحاليل مستمرة لنسبة الإشعاع في المختبر، وفي الهواء الجوي حول المختبر، إضافة إلى مراقبة درجة الإشعاع في ماء النهر بالقرب من المختبر وفي النباتات المحيطة بالمختبر.

وتأكيداً على واقعية هذه الحالة فقد أُجريتْ العديد من الدراسات الميدانية، منها البحث المنشور في مجلة العلوم في الثامن من يوليو 2015 تحت عنوان: "الأوراق البحثية لماري كيوري مازالت مشعة بعد أكثر من مائة عام"، فقد اكتشف الباحثون بأن كل شيء متعلق بها ما يزال مشعاً من مذكراتها البحثية، وملابسها التي كانت ترتديها، كما أكدوا بأن هذه الموروثات والمخلفات التي تركتها ستظل مشعة لأكثر من 1500 سنة، كما أكد على استمرارية هذه الحالة حتى يومنا هذا التقرير المنشور من وكالة البلومبرج في الثاني من سبتمبر من العام الجاري، وأفاد التقرير أيضاً بأن كلفة التنظيف وإعادة التأهيل والتخلص من الإشعاع الذي بدأ منذ إغلاق المختبر بلغت حتى الآن قرابة 15 مليون دولار.

والآن إذا رغب أي باحثٍ النظر والاطلاع على أوراق ماري كوري العلمية التي كتبتها بيديها، عليه أن يحصل على رخصة خاصة ويتعهد فيها على تحمل المسؤولية لأية عواقب صحية قد تنجم عن لمس هذه الأوراق، وأن يوقع على ورقة تشهد بموافقته، ثم بعد كل هذه الإجراءات الصارمة والمشددة تُقدم له أبحاثها الموضوعة في صندوق محكم من الرصاص. 

فهذه المخلفات المشعة الموجودة في مختبر ماري كوري ما هي إلا مثال واضح وملموس على وجود المخلفات المشعة أمامنا كواقع لا يمكن تجنبه، أو إهماله والفرار منه، فالمخلفات المشعة التي أُطلقُ عليها "مخلفات الدمار الشامل"، هي الآن كالقنابل الذرية الموقوتة الموجودة في مواقع أخرى وبكميات مهولة تهدد حياة كل إنسان على وجه الأرض، فهي موجودة في كل الدول التي قامت بتجارب نووية، أو أَنتجتْ قنابل وأسلحة ذرية، أو صنعت سفن وغواصات تعمل بالطاقة الذرية، أو إنها قامت بتوليد الطاقة والكهرباء باستخدام الوقود النووي في المفاعلات النووية.

فمخلفات الدمار الشامل موجودة الآن في أرض الولايات المتحدة الأمريكية وفي أعماق أرضها السحيقة في الكثير من المواقع المختلفة، وهي موجودة أيضاً في بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وفنلندا، وروسيا، وكوريا الشمالية والجنوبية، وفي الهند، وباكستان، واليابان، وأستراليا، وفي القريب العاجل وبعد تشغيل المفاعلات النووية في المملكة العربية السعودية وفي دول الإمارات العربية المتحدة ستكون هناك مخلفات الوقود النووي المستنفد، والتي حتماً ستتراكم عاماً بعد عام بعد أن تُستهلك طاقتها الإشعاعية وتستنفد قوتها، فتبقى مشعة بدرجة منخفضة لا تصلح لتوليد الكهرباء.

فمن الواضح إذن أن الحكومة الفرنسية عجزت لأكثر من قرن عن المعالجة الجذرية للإرث الإشعاعي الذي تركته ماري كوري في مختبرها، فمازال العقل الفرنسي لا يعرف كيف يتعامل بشكلٍ نهائي مع هذه المخلفات المشعة البسيطة، فكيف ستتعامل فرنسا والدول النووية الأخرى مع عشرات الآلاف من الأطنان من مخلفات الدمار الشامل الجاثمة على أراضيها منذ عقود طويلة وينتقل علاجها من جيل إلى آخر؟

وإنني أدعو مجلس الأمن أن يناقش هذه القضية الدولية التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، ففي أية لحظة قد تنفجر؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق