السبت، 21 سبتمبر 2019

المصابيح القديمة تُبعث من قبورها!

 
كنتُ أظن بأن مصابيح التانجستن الزجاجية الكُروية، أو اللمْبَاتْ الساطعة القديمة التي أضاءت منازلنا وشوارعنا سنواتٍ طويلة أصبحت جزءاً من الماضي القريب، وأنها تحولت إلى المتاحف العلمية والكتب التاريخية التي تحكي قصة تطور التقنيات والأجهزة والمعدات في مجال الإضاءة وإنارة المنازل والمباني والشوارع. 

ولكن ترمب، رجل المفاجآت والتصريحات غير المتوقعة الذي سحب بلاده من اتفاقية باريس الجماعية الدولية المشتركة للتغير المناخي التي وافق عليها سلفه الرئيس أوباما، فلا غرابة منه ولا عجب أن يقوم أيضاً بتنفيذ قرارٍ آخر غير متوقع وغير مسبوق، فهو يريد أن يُرجع إلى العالم ما بدأ أن يتخلى عنه تدريجياً، ويعتبره من التقنيات البالية التي أدت دورها بكل فاعلية واقتدار في العقود الماضية، والآن انتهى عملها وعفا عليها الزمن، وجاءت تقنيات وأجهزة جديدة أخرى لتحل محلها وتؤدي وظيفتها.

فالرئيس الأمريكي ترمب أحيا عندنا من جديد ذكرى اللمبات الزجاجية القديمة التي نسيناها منذ زمن ليس بالبعيد، وأخذ يمدحها ويثني عليها ويصفها بأفضل الأوصاف، وكأنها تقنية جديدة موجودة أمامه، وجهاز حديث اخترعته الولايات المتحدة الأمريكية قبل سويعات، فهو يفتخر بهذا الإنجاز العلمي العظيم، وفي الوقت نفسه أخذ يذم المصابيح الحديثة التي بدأت جميع دول العالم في استخدامه منذ سنوات، حيث قال ترمب في العاشر من سبتمبر من العام الجاري وهو جالس في البيت الأبيض في المكتب البيضاوي: "أنا أبدوا أَجْمل بالقرب من المصابيح الساطعة(اللمبات) (incandescent light) بدلاً من المصابيح الأخرى المجنونة"، كما أضاف قائلاً: "هذه المصابيح (ويقصد بذلك المصابيح الحديثة المعروفة بالـ إِلْ إِي دِي) تجعل بِشرتي تبدو برتقالية اللون"!

فقضية الجدل حول استخدام مختلف أنواع المصابيح ليست جديدة على المجتمع الأمريكي خاصة، والمجتمع الدولي عامة، فهناك تسابق محموم وشديد بين الدول الصناعية المتقدمة وبين الشركات المتنافسة في هذا المجال في تطوير مصابيح المستقبل، بحيث إن هذه المصابيح القادة ستتمتع بالخصائص التالية لكي تحظى بالسبق في اكتساح السوق على المستوى الدولي، وكسب رضا الدول والشعوب والمنظمات الأممية ذات العلاقة، وهذه المميزات أُلخصها في النقاط التالية:
أولاً: أن يكون عمرها طويلاً، بحيث لا يحتاج الناس إلى تغيير هذه المصابيح في أوقات قصيرة جداً، كما هو الحاصل الآن بالنسبة لمصابيح التانجستن القديمة التي تتلف سريعاً فتحتاج إلى استبدالها بين الحين والآخر.
ثانياً: الفاعلية في استهلاك الكهرباء، أي أنها منخفضة استهلاك الطاقة، وبالتالي تقلل استهلاك الوقود في محطات توليد الكهرباء وتخفض من انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي، وبخاصة من ناحية التأثير على قضية العصر المعقدة والمزمنة وهي ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.
ثالثاً: أن لا يكون هناك هدر للكهرباء، بحيث إن نسبة الإضاءة المنبعثة من المصباح تكون أعلى من الحرارة التي تنتج عنها. فعلى سبيل المثال، مصابيح التانجستن تشتغل من خلال استخدام الكهرباء لتسخين شعيرة دقيقة تعرف بالفَتِيل مصنوعة من عنصر التانجستن إلى درجة حرارة عالية جداً، حيث إن معظم الطاقة الكهربائية تتحول إلى حرارة لا يستفاد منها، فتُهدر كمية كبيرة من الطاقة دون أية فائدة.
رابعاً: سهولة التخلص منها بعد انتهاء عمرها أو تلفها، بحيث إنها لا تحتوي على مواد خطرة وسامة تؤثر على البيئة والإنسان بعد رميها في مواقع الدفن، فتحتاج إلى إدارة خاصة ومكلفة جداً تقع ضمن إدارة المخلفات الخطرة.
خامساً: أن يكون سعرها مناسباً للناس في مختلف دول العالم.

فهذه الخصائص جعلت الصراع محتدماً بين شركات دول العالم، حتى توصلتْ مؤخراً إلى صناعة المصابيح التي يُطلق عليها الصمام الثنائي الباعث للضوء(light-emitting diode) والمعروف اختصاراً بـ إِلْ إِي دِي (LED)، حيث يعمل هذا النوع الحديث من المصابيح بالتحول المباشر للكهرباء إلى ضوء عن طريق تحريك الإلكترونات الموجودة في ذرة العناصر من خلال الترازيستر. وهذه المصابيح، بالرغم من أنها أغلى سعراً إلا أنها تدوم طويلاً وتستهلك طاقة أقل بكثير من المصابيح العادية المعروفة، وبذلك يتم التوفير في استهلاك الطاقة وانخفاض فاتورة الكهرباء الشهرية.

وبعد إنتاج هذه المصابيح التي تُرشد استهلاك الكهرباء، فقد تسارعت دول العالم في سن التشريعات اللازمة لاستخدامها فورياً واستبدالها تدريجياً بالمصابيح القديمة، حتى يتم مع الوقت التخلص منها كلياً.
فعلى سبيل المثال، اتفق الحزبان المتناحران الجمهوري والديمقراطي، وقَلَّ ما يتفقان، في عهد الرئيس الأسبق بوش عام 2006 على سن تشريع للتخلص التدريجي من مصابيح التانجستن القديمة، ثم أكد على التشريع الرئيس أوباما بإصدار قانون حول فاعلية مصادر الطاقة بشكلٍ عام، والآن جاء ترمب، وكعادته ألغى ما قام به أوباما والذي كان من المرفوض أن يبدأ تنفيذه في يناير 2020.

كما حظر الاتحاد الأوروبي استيراد وإنتاج المصابيح القديمة، حسب القانون رقم 244/2009 في 18 مارس 2009 حول التخلص التدريجي لهذه المصابيح، بدءاً بالمصابيح قوة 100 وات. كذلك ودَّعتْ الصين المصابيح القديمة بدءاً من 1 أكتوبر 2012، حيث قامت تدريجياً بالتخلص منه من حيث الاستيراد والبيع والإنتاج، وبحلول عام 2016 أصبحت الصين خالية من هذه المصابيح العتيقة.

ولذلك نجد بأن جميع دول العالم تعمل على ترشيد استهلاك الكهرباء وتقليل نسبة تلوث الهواء من خلال استخدام الأجهزة والمعدات منخفضة استهلاك الطاقة في جميع القطاعات، كالمصابيح الحديثة، إلا الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة في ترمب الذي همَّش وأهمل كلياً القضايا المتعلقة بالبيئة وحمايتها من التلوث، وبالتالي أرجع العالم إلى الوراء، أو كما يقال للخَلفْ سِر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق