الأربعاء، 6 مايو 2020

هل الهواء الجوي مصدر للعدوى بفيروس كورونا؟


عندما تنبعث الملوثات من السيارات، أو من المصانع، أو من محطات توليد الكهرباء فإن مصيرها في النهاية يكون في الهواء الجوي، ومن هناك تحدث عدة تحولات وتغيرات على هذه الملوثات الموجودة في الهواء. فالملوثات التي تكون على هيئة الدخان أو الجسيمات الدقيقة الكبيرة والثقيلة نسبياً فهي لا تنتقل مسافة طويلة عبر الهواء وإنما بعد فترةٍ قليلة من الزمن تترسب على الأرض، إما على التربة، أو على المسطحات المائية التي تتلوث بها وتتغير هويتها ونوعيتها، وفي الوقت نفسه تُسمم الكائنات الحية التي تعيش على التربة وفي هذه المسطحات المائية.

وأما الملوثات أو الجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم أو الغازات والإيروسولات والتي قطرها صغير جداً، فهي تظل عالقة مثل الرذاذ في الهواء الجوي فترة طويلة من الزمن، وقد تنقلها الرياح إلى مناطق أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عن مصدر التلوث. وهناك عدة حوادث وقعت أمامنا تؤكد هذه الظاهرة، منها ما وقع في الخليج، وبالتحديد في دول الكويت عندما انطلقت الملوثات من حرائق المئات من آبار النفط في أواخر فبراير 1991 فعَبَرتْ الحدود الجغرافية لدولة الكويت ووصلت إلى البحرين وإلى مناطق بعيدة جداً كجبال الهيمالايا، ومنها كارثة تشرنوبيل في 26 أبريل 1986 التي بعد انبعاث الملوثات المشعة إلى الهواء الجوي، تلوثت الكرة الأرضية برمتها ودخلت هذه الإشعاعات في أجسام الكائنات الحية من إنسان ونبات وحيوان، كذلك نُشرت دراسة في مجلة تلوث البحر(Marine Pollution Bulletin) في مايو من العام الجاري وأكدت على انتقال المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر من المناطق الحضرية إلى أكثر المواقع في الكرة الأرضية بعداً عن الأنشطة البشرية وهو القطب الجنوبي حيث تم اكتشاف أكثر من 14 نوعاً من المخلفات البلاستيكية في المياه الثلجية. وفي حالات محددة تَتَحدْ الملوثات الموجودة في الهواء الجوي، فتُكون ملوثات جديدة أشد وطأة وتنكيلاً بصحة الإنسان كالضباب الضوئي الكيميائي الذي ينجم عن اتحاد أكاسيد النيتروجين مع الملوثات الهيدروكربونية وعند وجود أشعة الشمس، فتكون خليطاً معقداً وساماً من الغازات، وعلى رأسها غاز الأوزون السام.

واليوم نقف أمام الوباء الفيروسي الطفيلي الذي ضرب الكرة الأرضية برمتها، فلم يترك شبراً منها إلا وأصابه مس من هذا الفيروس الذي تحول مع الوقت إلى تسونامي مهلك للبشر أجمعين، وسريع الانتقال من إنسانٍ إلى آخر عبر التلوث الحيوي الفيروسي الذي يفرزه الإنسان المريض نفسه فينبعث منه ويعدي الآخرين، حتى أن عدد المصابين حتى كتابة هذه السطور زاد عن ثلاثة ملايين ونصف المليون، توفى منهم نحو نصف مليون.

فهناك عدة آليات عن طريقها يخرج فيروس كورونا من الإنسان المصاب ويُعرِّض من حوله للعدوى والإصابة بالمرض، منها الكحة أو السعال وهو انبعاث الهواء الملوث بالفيروس عبر الحنجرة، ومنها العطاس وهو انطلاق مئات الآلاف من الملوثات الفيروسية من فم وأنف المريض وبسرعة عالية على هيئة قطرات سائلة صغيرة الحجم كقطرات المطر إلى الهواء الجوي ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. ومع هذا الوباء العقيم الذي عجز الأطباء عن إيجاد الدواء الشافي والكافي له، انكشفت عدة نظريات تسبر غور مصير هذه الانبعاثات الفيروسية في الهواء الجوي، من حيث أقصى مسافة يصل إليها الفيروس من جهة، ومن حيث إمكانية انتقاله إلى مسافات طويلة عن طريق حركة الرياح والغبار من جهة أخرى.

هذه القطرات أو القُطيرات المائية الملوثة بفيروس كورونا عبارة عن جسيمات دقيقة متناهية في الصغر، فالجزء الثقيل والكبير نسبياً منها يسقط مباشرة على الأرض وعلى أسطح المواد بعد مسافة قصيرة جداً، في حين أن الجسيمات الأصغر حجماً، أو الإيروسولات فستظل عالقة فترة من الزمن وتسبح حرة طليقة في الهواء الجوي، وقد تنتقل إلى مسافة أكثر من 26 قدماً في حالة أن الكحة أو العطسة كانت شديدة وقوية.

وفي الأيام الأولى من ظهور الوباء أفادت منظمة الصحة العالمية بأن هذه القطرات السائلة التي تخرج من الإنسان المريض لا تبقى في الهواء فترة طويلة من الزمن، مما يعني حسب رأي المنظمة بأن العدوى الفيروسية قد لا تكون عن طريق استنشاق هواءٍ جوي ملوثٍ بالفيروس. ولكن اليوم ومع كثافة وسرعة الأبحاث العلمية التي تُجرى لسبر غور هذا الفيروس الغامض والخبيث، أكد العلماء بأن هذه القطيرات والإيرسولات الخفيفة والصغيرة تبقى عالقة في الهواء فترة طويلة من الزمن وقد تنتقل إلى مسافات طويلة تُعرض فيها الأصحاء لخطر العدوى. فعلى سبيل المثال، هناك دراسة نُشرت في مجلة "الطبيعة" المرموقة في 27 أبريل تحت عنوان: "تحليل الهواء لفيروسات كورونا الجديدة في مستشفيين في ووهان"، حيث قامت الدراسة بتحليل عينات من الهواء الجوي في 30 موقعاً داخل وخارج مستشفيين في مدينة ووهان الصينية مسقط رأس الفيروس ومكان ولادته في شهري فبراير ومارس، منها غرف عزل المرضى المصابين بفيروس كوفيد_19، وحمامات المرضى، وغرفة تبديل الملابس للطاقم الطبي، إضافة إلى عينات من مواقع عامة خارج المستشفى مثل المباني السكنية، والبرادات، ومجمع للتسوق.

وقد تمخضت عن الدراسة عدة استنتاجات منها ما يلي:
أولاً: القطيرات السائلة التي تخرج من المريض، وبالتحديد الخفيفة منها والصغيرة جداً تبقى عالقة في الهواء فترة طويلة من الزمن وتنتقل عبر الهواء إلى مواقع أخرى فتلوثها بالفيروس، ومنها ما يترسب على أسطح المواد بعيداً عن مصدر انبعاث الفيروس من المريض المصاب.
ثانياً: التهوية مهمة جداً في التخلص من الفيروس، فكلما كانت التهوية أشد وأكثر فاعلية كلما انخفض تركيز الفيروس، إضافة إلى التعقيم والتنظيف المستمرين يومياً.
ثالثاً: التخلص السليم من الأدوات الواقية للطاقم الطبي من كمامات، وقفازات، وملابس له علاقة مباشرة بتركيز الفيروس في الموقع.

كذلك هناك دراسات أخرى أكدت هذه الاستنتاجات، منها البحث المنشور في 20 أبريل في المجلة الطبية البريطانية تحت عنوان: "قدرة فيروس كوفيد_19 على الانتقال في المركز الطبي لجامعة نبراسكا"، ومنها المنشور في مجلة "مستشار الأمراض المعدية" في 22 أبريل تحت عنوان: "انتقال فيروس كورونا عبر الهواء بالتنفس: ماذا نعرف فعلاً؟".

وأخيراً هناك الدراسة الأولية التي أُجريت في إيطاليا في مقاطعة برجامو(Bergamo)، حيث قامت بتحليل تركيز مؤشرات وجود فيروس كورونا في الجسيمات الدقيقة التي يصل قطرها إلى نحو 5 ميكرومترات في الهواء الجوي في مواقع مختلفة في المدينة، وأفادت بوجود الفيروس في بعض هذه المواقع، مما يشير إلى قدرة هذا الفيروس على الانتقال إلى مواقع بعيدة عبر الهواء الجوي.

ولكن كل هذه الدراسات لم تجب على السؤال الأهم بالنسبة للصحة العامة وهو: هل هذه الفيروسات التي تم اكتشافها في مواقع بعيدة عن مصدر التلوث الفيروسي كانت نشيطة وسليمة ويمكنها أن تعدي الناس، أم أنها كانت ميتة وضعيفة لا تأثير لها؟
وربما الأبحاث القادمة ستجيب عن هذا السؤال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق