الجمعة، 15 مايو 2020

محطات مفصلية في عُمر فيروس كورونا


في مساء يوم الإثنين الموافق الثلاثين من ديسمبر 2019، أَرسلَ طبيب صيني اسمه لي ونلينج(Li Wenliang) يعمل في مستشفى ووهان المركزي في مدينة ووهان(Wuhan) التي تُعد المدينة الأكبر الواقعة في مركز ووسط الصين في مقاطعة هوباي(Hubei province)، رسالة نصية هاتفية إلى فريق من الأطباء الذين يعملون معه مفيداً بأنه قد فحص سبع حالات أكيدة لمصابين بمرض رئوي يشبه مرض سارس في سوق هيونان لبيع الكائنات البحرية(Huanan Seafood Wholesale Market)، ثم في اليوم التالي اتصلتْ هيئة البلدية الصحية بالطبيب وأجرت معه اجتماعاً خاصاً واتهمته بأنه يزرع الفتنة في المجتمع، وينشر الأخبار المضللة، ويروج للإشاعات ويثير الرأي العام. وفي العاشر من يناير أُصيب الطبيب نفسه بهذا المرض الغامض وظهرت عليه أعراض تتمثل في الكحة وارتفاع درجة حرارة الجسم وضيق في التنفس، مما استدعى نقله في 24 يناير إلى قسم العناية المركزة، وبدأ هناك وهو في هذه الحالة الصحية العقيمة براوية قصته كلها في 27 يناير قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث نُقل إلى مثواه الأخير بطلاً قومياً يوم الجمعة ظهراً في السابع من فبراير من العام الجاري.
فقصة هذا الطبيب الشاب المأساوية الذي أَخلصَ لمهنته وبلده وللبشرية جمعاء باكتشاف هذا المرض الخبيث والوباء العالمي العصيب وضحى بحياته ثمناً لذلك، هي في تقديري تستحق أن تكون المحطة الأولى المفصلية من عمر فيروس كورونا. 
وأما المحطة المحورية الثانية فهي مواقف وقرارات منظمة الصحة العالمية مع تطورات فيروس كورونا مع الوقت. فأول وقفة مع المنظمة كانت عندما أخبرت الصين المنظمة في 31 ديسمبر بوجود مرض رئوي فيروسي غامض وغير معروف في مدينة ووهان، وأن عدد الحالات المرضية بلغت 27 حالة. وفي الخامس من يناير أعلنت المنظمة الصحة العالمية عن ظهور أزمة صحية في ووهان، وفي 7 يناير بدأت المؤتمرات الصحفية المنتظمة لنشر المعلومات المستجدة حول تطورات هذه الأزمة. ثم في الثامن من يناير أطْلقتْ اسماً علمياً مؤقتاً على هذا الفيروس الغامض والمجهول(2019-nCoV)، وأشارت إلى أن هذا الفيروس من سلالة وعائلة من الفيروسات يُطلق عليها بفيروس كُرُونا، وفي التاسع من  يناير وزعت المنظمة على الدول الأعضاء إرشادات وتوجيهات حول إدارة المخاطر والتخطيط لها، بحيث تقوم كل دولة بإصدار برنامجها الخاص في هذا المجال وبما يتناسب مع إمكاناتها وخصوصياتها وعدد الحالات التي ظهرت فيها.

وفي بداية الأزمة عندما كان الغموض يحيط الفيروس والمرض الذي يسببه، أشارت المنظمة في 14 يناير بأنه لا يوجد دليل على انتقال الفيروس من إنسان إلى آخر، ثم مع مرور الوقت وازدياد حالات الإصابة بالمرض والوفيات، إضافة إلى ظهور المرض في خارج الحدود الصينية مثل سنغافورا وهونج كونج وتايوان وتايلند والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في 23 يناير، أكدت المنظمة عن انتقال المرض بين البشر، وبعد هذا الاكتشاف المخيف، أعلنت في 30 يناير حالة الطوارئ الصحية الدولية. ومع اتضاح الصورة أكثر حول الفيروس وارتفاع كثافة الأبحاث حوله، أَطلقتْ المنظمة اسماً علمياً رسمياً للفيروس في 11 فبراير هو "مرض فيروس كورونا"، أو كوفيد_ 19(SARS-CoV-2 or COVID-19).
وهذه الأزمة الصحية الخبيثة بدأت فجأة تزحف نحو الغرب والشرق الأوسط، وأخذت في غزو المدن واحتلالها بالكامل، فانفجرت حالات الإصابة والموت من المرض بنسبٍ غير متوقعة، كما حدث فجأة في إيران وإيطاليا في منتصف شهر فبراير، مما استدعى في 25 فبراير إطلاق المنظمة لتحذيرٍ دولي بأن كورونا يقترب تدريجياً وبسرعة نحو وصفه كوباء وجائحة دولية، وأخيراً اضطرت المنظمة في 11 مارس بعد أن طفح كيل المرض، فشمل كل شبرٍ من أنحاء الكرة الأرضية وأودى بحياة قرابة 3000 إنسان، وأسقط أكثر 80 ألف مريض في 35 دولة، إلى إعلان مرض كوفيد_19 بأنه وباء عالمي.
وأما المحطة المفصلية الثالثة في عمر فيروس كورونا فتكون مع نزول الفيروس إلى أراضي دول العالم أجمع. فمن الصين مهد هذا الفيروس ومسقط رأسه، انتقل أولاً إلى الدول المجاورة، ثم عبر البحار والمحيطات إلى القارة الأمريكية والأوروبية. ففي الثالث من يناير، أي بعد الإعلان الرسمي بوجود مرض فيروسي رئوي بأربعة أيام فقط زحف الفيروس العقيم إلى سنغافورا وهونج كونج وتايوان وفيتنام، ثم بدأ يغزو القارة الأمريكية الشمالية، بدءاً بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث سُجلت أول حالة في مدينة سياتل بولاية واشنطن في العشرين من يناير قادمة من خارج الحدود، ثم أخذ السم ينتشر في شرايين جسد أمريكا فكانت أول حالة من العدوى بين البشر في الثلاثين من يناير، ومنذ هذا الوقت فتك الفيروس في كامل أعضاء جسد أمريكا حتى بلغ كل ولاية  أمريكية في 17 مارس، وتحولت مدينة نيويورك في العشرين من مارس لتكون ساحة أم المعارك، حيث بلغ عدد الموتى في يوم واحد أعلى نسبة في العالم متجاوزاً الألفين ضحية بشرية. ثم في 26 مارس احتلت أمريكا المركز الأولى بالنسبة لعدد الحالات والتي زادت عن 80 ألف حالة، علماً بأن عدد الجنود الأمريكيين الذين سقطوا في معظم الحروب لم يبلغ هذا الرقم، ففي حرب فيتنام قتل 58220 جندياً، وفي كوريا 36574، وفي العراق 4431، وفي الحرب العالمية الأولى 53402، وفي أفغانستان الحرب الأطول في تاريخ أمريكا قتل فقط 2445 جندياً، حسب الإحصائيات الرسمية الصادرة من وزارة شؤون المحاربين. 

ومن القارة الأمريكية، اتجه الفيروس نحو قارة أوروبا وتوغل فيها واحدة تلو الأخرى، حيث سُجلت أول حالة في مدينة ميونيخ الألمانية في 19 يناير، ثم في فرنسا في 24 يناير سُجلت أول حالة إصابة ووفاة في 14 فبراير، وبعدها تحولت الأنظار في منتصف شهر فبراير إلى إيطاليا حيث بدأ الناس يتساقطون صرعى وبأعداد مهولة غير مسبوقة بسبب هذا الفيروس الصغير المجهول، حتى أن إيطاليا في 19 مارس أصبحت أول دولة تزيد فيها حالات الموت والإصابة بالمرض عن الصين. ومن أمريكا والصين زحف الفيروس إلى روسيا حيث نمت الحالات رويداً رويداً حتى بلغت في الثالث من مايو أعلى حالة إصابة في يوم واحد وهي عشرة آلاف إنسان.

وأما في دول الشرق الأوسط، فقد تصدرت إيران لائحة المصابين والموتى منذ منتصف شهر فبراير، فنَقلتْ العدوى إلى دول الخليج، حيث رُصدت أول حالة في البحرين في 24 فبراير، وصاحبها في الوقت نفسه حالات في دول الخليج الأخرى.

ولذلك نجد أنه بالرغم من قصر عمر هذا الفيروس الخبيث والذي لا يزيد عن خمسة أشهر، إلا أن هذه الحياة القصيرة قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه في كل دول العالم، فامتلأ بالأحداث المؤلمة والوقائع المحزنة، فلكل دولةٍ قصتها المريرة مع هذا الفيروس، ولكل إنسان مواقف عصيبة واجهها مع هذا الفيروس، ولكل أسرة محنتها ومعاناتها، فالعالم كله تغير بسبب هذا الفيروس المجهول وتحَطَم اقتصادياً، واجتماعياً، وأمنياً، وأسأل الله أن لا يطول عمر هذا الفيروس أكثر حتى لا تزيد معاناة الأمم والشعوب وتنهار دول برمتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق