الثلاثاء، 26 مايو 2020

منظمة الصحة العالمية بين فكين مفترسين


منذ أكثر من خمسة أشهر، وبالتحديد منذ انكشاف وباء فيروس كورونا العقيم على الساحة الدولية، ومنظمة الصحة العالمية وجميع كبار المسؤولين فيها يعانون من أوضاعٍ صعبة جداً لا يحسدون عليها، ويمرون في أوقاتٍ عصيبة تهدد مصير المنظمة وقدرتها على الصمود والاستمرار، وربما لم تواجه هذه المنظمة العريقة منذ إنشائها في السابع من أبريل 1948 مثل هذا التحدي الكبير.

فالمنظمة اليوم وبسبب مرض فيروس كورونا كالسفينة الضائعة التي تسبح في البحر، فتارة تجرها الرياح العاتية إلى الغرب، وتارة أخرى تسحبها الرياح الشديدة إلى الشرق، فدفة سفينة المنظمة ليست في يد رجال المنظمة كلياً، وإنما تُوجِه الدول المتنفذة والقوية والمتقدمة دفة هذه السفينة إلى ما تشتهيها وإلى ما تتوافق مع مصالحها ورؤيتها وسياساتها على المستوى القطري، أو على مستوى التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى.

ففيروس كورونا أشعل فتيلة حربٍ كلامية قاسية بين الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية من جهة، وخلق توترات دبلوماسية حادة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من جهةٍ أخرى، وقد بلغت المعركة ذروتها في اجتماع الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية الـ 73 في الفترة من 18 إلى 19 مايو، وأما الدول الأخرى فوقفتْ في معظمها على الحياد تتفرج عما تُسفر عنها الأيام القادمة من الصراع بين هاتين الدولتين العظميين.

ففي بداية هذه الكارثة الصحية الدولية وفي أيامها الأولى كانت العلاقات جيدة بين ترمب ورئيس الوزراء الصيني، بل وإن ترمب في العشرين من يناير وفي الكثير من تغريداته قدَّم الشكر لرئيس الوزراء ومدحه على عمله الدؤوب والكبير لاحتواء الفيروس حسب تحقيق المحطة الإخبارية سي إن إن في 19 مايو تحت عنوان: "المرات الكثيرة التي مدح فيها ترمب إدارة الصين لوباء كورونا"، فكانت لهجته حينئذٍ لينة ورفيقة وودودة. فالرئيس الأمريكي ترمب لم يخطر على باله قط بأن هذه الحرب الفيروسية التي تخوضها الصين ستنتقل عدواها يوماً ما، وقد يكون سريعاً وعاجلاً، إلى عقر داره، بل ولم يفكر ترمب قط بأن بلاده ستتحول إلى بؤرة مرض فيروس كورونا على المستوى العالمي، حيث بلغت الحالات المرضية حتى كتابة هذه السطور إلى مليون ونصف المليون، توفي منهم 90 ألفاً، فأعلن، ولأول مرة في تاريخ أمريكا في 11 أبريل بأن جميع الولايات الأمريكية تعتبر مناطق كوارث صحية، إضافة إلى أن هذا الفيروس هزَّ العرش الاقتصادي لترمب نفسه وللولايات المتحدة الأمريكية على حدٍ سواء، فتكبدت أمريكا خسائر تقدر بتريليونات الدولارات، ووصلت نسبة البطالة رقماً قياسياً نحو 15%.

فهذه الحقائق المخيفة غير المتوقعة لترمب وفشله في إدارة الوباء وتخفيف الضرر الصحي والاقتصادي والاجتماعي على أمريكا والتي بدورها قد تخرجه من البيت الأبيض في انتخابات نوفمبر، جعلت ترمب يلقي غضبة على الصين من جهة، وعلى منظمة الصحة العالمية من جهةٍ أخرى. أما بالنسبة للصين فقد غير لهجته كلياً، بل واتهمها بعدم الإفصاح عن المرض وحجمه في الأيام الأولى من ظهوره، والقيام بالتستر على الأرقام الحقيقة الواقعية لعدد المصابين وعدد الذين لقوا نحبهم، ومما رفع من درجة شكوك ترمب حول تضليل الصين للمجتمع الدولي، هو أن الصين نفسها اعترفت في 17 أبريل بأنها أخطأت في تقديراتها لعدد الضحايا، وأعلنت بأن التقدير النهائي لعدد الحالات يزيد بنسبة 50%.

كذلك أضاف ترمب تهمة أخرى إلى الصين متعلقة بمصدر الفيروس، حيث صرح في 18 أبريل قائلاً بأن إمكانية تسلل الفيروس من مختبر في مدينة ووهان الصينية تبدو منطقية ومعقولة، كما أكد وزير الخارجية بومبيو بأن لديه أدلة كثيرة تؤكد تسرب الفيروس من المختبر الصيني، ومما رفع من درجة الريبة في مصداقية الصين حول مصدر الفيروس هي أنها أكدت في الثالث من مايو على أنها أتلفت العينات الأولى من دم المرضى، حسب ما ورد في مجلة النيوزويك في 15 مايو.
وفي الوقت نفسه فتح ترمب جبهة جديدة في صراعه الكلامي حول فيروس كورونا، وهذه المرة مع منظمة الصحة العالمية وانتقد بشدة إدارتها لهذا الوباء العالمي، حيث قال في الثامن من أبريل: "لقد فشلت المنظمة في هذا الواجب الأساسي ويجب محاسبتها"، واتهمها بأنها منحازة للصين، ثم في 14 أبريل علَّق دعمه المالي للمنظمة، وعلاوة على ذلك كله فقد أرسل ترمب خطاباً شديداً إلى المدير العام للمنظمة عبر التويتر في 18 مايو، وقال فيه بأن المنظمة أبدت ضعفاً في "استقلاليتها" في اتخاذ القرار بعيداً عن الضغوط الصينية، وصرح قائلاً بأنها "دمية في يد الصين"، كما هدَّد في خطابه للمنظمة بالتوقف كلياً عن دعمها والانسحاب منها ما لم تقم بإجراء تعديلات جذرية وتغييرات شاملة خلال 30 يوماً.

وفي المقابل فإن الصين في حربها الباردة مع أمريكا، رسمت لنفسها اتجاهين، الأول يتمثل في أنها استغلت حاجة الدولة الماسة والملحة إلى كافة أنواع الدعم لمواجهة كورونا، فقامت بتقديم مساعدات إدارية وفنية وطبية لأكثر من 90 دولة حول العالم، إضافة إلى كسب ود منظمة الصحة العالمية بدعمها مالياً، وبالتحديد تعهدت في 18 مايو بدفع مبلغ بليوني دولار للمنظمة لدعم جهودها في مكافحة الوباء، وأما الاتجاه الثاني فهو رد الاتهام على أمريكا في قولها في 12 مارس بأن واشنطن هي سبب انتشار الفيروس، لأنها أرسلت جنوداً أمريكيين إلى ووهان يحملون هذا الفيروس، ولكن دون إعطاء الدليل المادي المحسوس.

أما منظمة الصحة العالمية فلا حول لها ولا قوة، فهي تقف عاجزة وحائرة أما فك أمريكا المفترس من جهة وفك الصين القاطع من جهة أخرى، فاتخذت قراراً توفيقياً ليناً في 18 مايو أثناء اجتماع الجمعية العامة بموافقتها على إجراء مراجعة شاملة لتاريخ نشؤ هذا الفيروس، دون التركيز على أنها "تحقيق دولي مستقل"، فتُحاول المنظمة من خلال هذا القرار مجاملة أمريكا وامتصاص غضبها، وفي الوقت نفسه إرضاء الصين وكسب مساعدتها.

وجدير بالذكر أن هذا هو حال كل المنظمات والوكالات الأممية، بما في ذلك مجلس الأمن، فقد تحولت كلها  إلى ساحة للمعارك بين الدول القوية المتنافسة للسيطرة على مجريات الأمور وتوجيه دفة سفينة هذه الوكالات لما تشتهيها وبما يتماشى مع مصالحها القومية والحزبية، فأصبحت هذه المنظمات والمجالس الأممية غطاءً سياسياً وأمنياً يُشرِّع على المستوى الدولي كل ما تريد الدول الكبرى القيام به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق