الأحد، 24 مايو 2020

كارثة بوبال الهندية تضرب مرة ثانية


مع هذه الأيام العصيبة التي يشهدها كل إنسان يعيش على سطح الأرض، لا شك بأن أي حادث آخر ينزل علينا سيكون بسيطاً لا يُلفت أنظار الناس ولا يشغل بالهم، ولا يحظى بالتغطية الإعلامية الواسعة التي تستحق، فكارثة هذا الوباء الفيروسي العقيم الذي أدخل حتى الآن 275 ألفاً من بني البشر إلى مثواهم الأخير، وجعل نحو أربعة ملايين من المصابين ينتظرون نحبهم، قد وجه بوصلة جل اهتمام ورعاية رجال السياسة والعلم والإعلام نحوه، حتى إننا ومنذ أكثر من خمسة أشهر نشاهد أخبار فيروس كورونا وهي تتصدر الصفحة الأولى من جميع الصحف والمجلات، ونرى بأن الخبر الأول الذي يذاع ويبث في التلفزيون والراديو هو القضايا والمعلومات والإحصائيات التي تخص هذا الفيروس المجهول الهوية والضعيف الذي لا يرى بالعين المجردة.

ولكن الكارثة التي وقعت في الهند لا بد لي من إلقاء الضوء عليها، والتعلم من هفواتها، والاستفادة من زلاتها، فلا يمكن أن تمر علينا حادثة موت العشرات من البشر وإصابة الآلاف وكأنها لم تك شيئاً، فالموت واحد من أي مصدر كان، وحياة الإنسان لا تقدر بثمن، سواء أنها أُهدرت بسبب التلوث الحيوي الناجم عن فيروس كورونا، أو من التلوث الكيميائي والحوادث الصناعية.

وقبل أن أنقلُ لكم تفاصيل حادثة اليوم، سأعرجُ سريعاً على مذبحة جماعية أخرى مشابهة إلى حدٍ كبير لهذه الواقعة العظيمة، ووقعت في الهند أيضاً في مدينة بوبال(Bhopal) في الثاني من ديسمبر 1984، فالتاريخ يعيد نفسه بعد 36 عاماً، فأما أشبه اليوم بالبارحة.

فقد كانت ليلة سوداء مرعبة على سكان بوبال عاصمة ولاية مديا برادش(Madhya Pradesh) الواقعة في وسط الهند وتبعد نحو 6 كيلومترات من نيودلهي. فسكان المدينة الذين كان يبلغ عددهم 1.8 مليون تضرر معظمهم بسبب غمامة ثقيلة من الملوثات السامة المهلكة التي تسربت من مصنع لصناعة المبيدات الذي يحتوي على ميثيل أيسوسيانيت(Isocyanate methyl)، وحدث ذلك في هدوء وصمت الليل القاتل عند اقتراب ساعات الفجر الاولى، فمنهم من لم يستيقظ من نومه ولفظ انفاسه الاخيرة وهو في سبات عميق، ومنهم من أراد أن يلوذ بالفرار، وكأنهم حُمرٌ مستنفرة فرَّت من قَسْوَرة، فوقعوا صرعى مختنقين في منتصف الطريق، ومنهم من هرب من الموت المحتوم ولكنه أصيب بمرض شديد لا يرجى شفاؤه، وعاهة مزمنة. فهذه السحابة من الملوثات كانت كقنبلة كيميائية انطلقت من مصنع يسمى يونيون كاربيد الهندي الأمريكي، ولم تنفجر هذه القنبلة عن طريق الصدفة وعن طريق حادثة عرضية، وإنما كانت ليد الانسان الدور الرئيس في تكوينها، وجاءت نتيجة لسلسلة مستمرة من الاخطاء البشرية، والممارسات غير المبالية التي لم تتقيد بإجراءات السلامة في المصنع، ولم تلتزم بالاحتياطات الأمنية الواجب اتخاذها في مثل هذه المصانع الخطرة.

ففي خلال سويعات، سقط أكثر من 4000 شخص صرعى فقضوا نحبهم على الفور، ثم استمر تأثير هذه الطامة الكبرى مع كل دقيقة مرَّت على سكان المدينة حتى زاد عدد الضحايا في نهاية هذا الحدث الجلل إلى أكثر من 200 ألف. وأما المرضى الذين ادخلوا المستشفيات فملأوها صياحاً وعويلاً من شدة الألم، فقد بلغ عددهم قرابة 55 ألف مريض، توفى الكثير منهم بسبب عدم وجود الرعاية الصحية المباشرة والسريعة.

وأما بوبال الجديدة، بوبال اليوم، فقد وقعت المشاهد نفسها، ولكن هذه المرَّة رأيتها بعيني وذقت مرارتها وآلامها وأنا أشاهد هذه المناظر المأساوية وكأنني في ساحة للقتال، وأشاهد معركة حية تدور أمامي بسبب قنبلة متفجرة أو صاروخ مدمر. ففي الصباح الباكر من يوم الخميس السابع من مايو، خيَّمت سحابة كثيفة سامة فوق سماء المدينة تحتوي على مركب استيرين السام الشديد التطاير، فجثمت على صدور الناس، حيث استيقظ الناس مرعوبين وكأنهم يعانون من كابوس مخيف، ولكن هذا الجاثوم كان بالفعل حلماً حقيقياً وكابوساً واقعاً، فقام الناس من نومهم ووسط الظلام الحالك وهم يقاسون من شعورٍ بالاختناق وضيقٍ حاد في التنفس وآلام في الصدر وحكة شديدة في العينين نتيجة لاستنشاقهم لهذه السحابة القاتلة التي لها رائحة نفاذة مميزة، وقد نقلت لنا وسائل الإعلام هذه المناظر المبكية والمؤلمة بسبب هذه الواقعة الشديدة، فقد رأيتُ منظر الناس وهم يتساقطون في الطرقات، ومنظر الناس وهم يرقدون في الطرقات فمنهم من فقد وعيه وكأنه جثة هامدة، ومنهم من يلوح بيديه طالباً المساعدة والإغاثة العاجلة، كما رأيت منظر الأمهات والآباء وهم يحملون أطفالهم ويهرعون بهم نحو سيارات الإسعاف المشحونة بالجرحى والمصابين، وشاهدت منظر الرجال وهم يحملون الصرعى والمصابين إلى شاحنات خاصة لنقلهم إلى المستشفيات.

فكانت المحصلة الأولية لهذه المعركة، سقوط أكثر من عشرين صريعاً، ونقل أكثر من خمسة آلاف إلى المستشفيات، وإجلاء نحو 2000 عائلة من منازلهم.

وكل هذه الخسائر الهائلة للبشر كان بسبب أخطاءٍ بشرية وقعت عند إعادة تشغيل مصنع كوري جنوبي إل جي للمواد المتبلمرة(LG Polymers) في جنوب الهند في مدينة(Visakhapatnam) في ولاية أندرا برادش(Andhra Pradesh)، حيث ينتج مادة بلاستيكية هي البولي ستايرين(polystyrene) من مركب الإستيرين السام الذي تطاير وتسرب إلى الهواء الجوي من الخزان.

فمثل هذه الكوارث الصناعية يجب أن نقف أمامها، وبخاصة المعنيين منا من أصحاب المصانع، فنتعظ منها، ونتعلم من سلبياتها، ونستفيد من الأخطاء التي ارتكبت فأدت إلى وقوع الواقعة، ونرفع من مستويات وإجراءات الأمن والسلامة في مصانعنا ونجعلها أكثر حزماً وتشدداً، فأي خطأ ولو كان بسيطاً له عواقب جسيمة ووخيمة على الناس والمجتمع برمته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق