الأربعاء، 22 يونيو 2011

إنها تجارب أمريكا الشيطانية



إنها تجارب أمريكا الشيطانية

امرأة مُسنة من جمهورية جواتيمالا(Guatemala) في أمريكا الجنوبية، بلغت من الكِبَر عِتياً، فوَهَنَ عَظْمها، واشتعل رأسها شيباً، وملأت التجاعيد وجهها الكئيب لتعبر عن سنواتٍ طوال من القسوة الجسدية والنفسية، ووصلت من العمر نهايته 74 عاماً، وهي تحكي الآن قصتها المأساوية بكلمات حارة بائسة متقطعة، تخرج بقوةٍ من فمها وهي تحترق ألماً، وتنزف دمعاً، وتروي معاناتها الشديدة التي استمرت طوال سنوات حياتها العجاف منذ أن كانت طفلة بريئة تبلغ من العُمر تسع سنوات وهي تعيش في ملجأ للأيتام بعد وفاة والديها.
 
فتحولت حياتها من كارثة فقدان الوالدين والأيادي الدافئة والحنونة التي تلف حولها فتثلج صدرها وتطمئن نفسها، إلى كارثة أخرى أشد وطأة من أختها، فحفرت بصماتها القاسية في أعماق قلبها، ونقشت ذكرياتها الأليمة في داخل صدرها.

فقد نقلت صحيفة الجارديان في عددها الصادر في 8 يونيو قصة هذه المرأة الحزينة، والطامة الإنسانية الكبرى التي نزلت عليها وعلى أكثر من 1500 إنسان في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم في جواتيمالا.

فهذه المرأة الطاعنة في العمر التي تروي فاجعتها الآن، تُمثل المعاناة التي مرَّ بها هؤلاء البشر جميعهم، فمنهم من قضى نحبه فمات في حسرة وأَلَمٍ شديدين، ومنهم من ينتظر، فأبقاهم الله أحياء على وجه الأرض ليقدموا شهادة حية، ووصفاً مباشراً ودقيقاً على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وعلى تعدي الدول الكبرى على الإنسان الضعيف في الدول الصغرى، فلا يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة، حتى أن أحد أبناء الناجين وصف هذه الفاجعة قائلاً:"إنها كانت تجارب الشيطان".

فتصف هذه المرأة واسمها مارتا أوريلانا(Marta Orellana) وبمرارة كبيرة ما قاسته منذ أن بدأت القصة في عام 1946، فتقول بأنها كانت في التاسعة من عمرها وهي تلعب مع زميلاتها اليتامى في الملعب في دار الأيتام، عندما سمعت من ينادي اسمها، وأن عليها الذهاب فوراً إلى غرفة العلاج، فذهبت إلى هناك، ووجدت من ينتظرها من الأطباء، منهم من يتكلم اللغة الإنجليزية من الولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم من جواتيمالا، فأمروها بالاستلقاء على السرير وفتح ساقيها، فرفضت القيام بذلك خجلاً واستحياءً من هؤلاء الرجال، فقاموا بالقوة ورغماً عن أنفها بفتح ساقيها وفي أيديهم إبرة طويلة، فحقنوها ثم تركوها، وقاموا بالفعل نفسه مع أكثر من تسع من البنات اليتيمات في الملجأ.

وهذه المشاهد العنيفة والغامضة تكررت مع نحو 1500 من البشر في جواتيمالا في تلك الفترة المظلمة ولقرابة أربع سنوات، ثم بعد الانتهاء من هذه العملية، أُسدل الستار الحديدي على هذه المشاهد، وأقفل الباب بالشمع الأحمر، ودخلت في طي النسيان، وفي غياهب أرشيف التاريخ الأمريكي الغاية في السرية. ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يفضح خيوط هذه الجريمة الإنسانية البشعة، فينكشف هذا السر على يد أحفاد من قاموا بهذه العملية المفجعة التي أخفوها عن الناس.

فقد كانت الأستاذة الجامعية سوزان ريفربي(Susan Reverby) من كلية ويلسلي (Wellesley College) في الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بدراسات عامة عن تاريخ الطب الأمريكي فتبحث في بطون كتب التاريخ عن هذا الموضوع، فوقعت عيناها وبالصدفة في صفحات الأرشيف المدفون عن وثيقةٍ سرية تُبين قيام بعض الأطباء الأمريكيين وتحت الإشراف المباشر للأجهزة الاتحادية الرسمية بتجارب على السجناء في جواتيمالا، واستخدامهم كفئران المختبر. وبعد الولوج في أعماق هذه الوثيقة لم تُصدق ما وجدت بداخلها. فقد كان الأطباء الأمريكيين وفي سرية تامة في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، يَحقنون الأطفال الأيتام، والسجناء، والجنود، والمرضى المتخلفين عقلياً، بحقنٍ ملوثةٍ بجراثيم تُصيب الإنسان بالأمراض التناسلية، وبالتحديد مرض السفليس(syphilis) أو الزهري، كما استخدموا في ذلك أبشع الوسائل والسبل لتحقيق أهدافهم، مثل استخدام العاهرات المصابات بالمرض، أو الحَقْنْ الجبري وبالقوة في النخاع الشوكي، أو رش الجراثيم على وجوه وأعضاء هؤلاء الأفراد بشكلٍ مباشر لإصابتهم بالمرض، ثم دراسة الأعراض المرضية التي تنكشف عليهم، وبعد ذلك حقنهم بالمضاد الحيوي الذي ظهر في تلك الفترة والمعروف حالياً بالبنسلين(penicillin)، لمعرفة مدى فاعليته في علاج ومنع هذا المرض الجنسي.

وبعد أن سبرت الباحثة الأمريكية غور هذه الكارثة الإنسانية، وكشفت النقاب عنها، تدخلت الجهات الحكومية الرسمية محاولة التستر على جريمتها البشعة، ولكن دون جدوى، فقد فاحت الرائحة النتنة لهذه الفضيحة في وسائل الإعلام، ونُشرت في المجلات العلمية والإخبارية العامة، ومنها مجلة الطبيعة المعروفة (Nature) في أكتوبر 2010، مما اضطر الإدارة الأمريكية ممثلة في وزيرة الخارجية ووزيرة الصحة إلى إصدار اعتذار عن وقوع هذه الجريمة البشعة، كما اتصل أوباما نفسه برئيس جواتيمالا ألافرو كولم كاباليروس (Alvaro Colom Caballeros) ليعتذر عن العمل المشين الذي قامت به الأجهزة الصحية الأمريكية الاتحادية، وليُعبر عن أسفه الشديد لشعب جواتيمالا وكافة المتضررين من التجارب المفزعة والقاتلة التي أجريت عليهم. 

ولكن هذا الجرح العميق الذي أصاب الشعب في جواتيمالا قبل أكثر من 70 عاماَ مازال ينزف دماً حتى يومنا هذا، وتشكلت لجان حكومية مشتركة بين جواتيمالا وأمريكا لفرض التعويضات المناسبة للمتضررين.

ولكن ما فائدة هذه التعويضات للذين أصبحوا عظاماً نخرة وماتوا بسبب الجراثيم الملوثة؟ وهل أموال الدنيا كلها تستطيع علاج الذين تسممت دماؤهم ودماء أولادهم وأحفادهم بهذه السموم وعانوا جسدياً ونفسياً طوال هذه العقود؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق