الأحد، 2 نوفمبر 2014

قَتَلنا الحشرات، ولكن أدخلنا السموم بدلاً منها!



نحن اليوم، شِئنَا أم أَبَـينا، نعيش في عصر التوازنات والتوافقات عند اتخاذ القرار، وبخاصة القرار السياسي الذي يهدف عادة إلى تحقيق قَدَرٍ من الرضا والقبول العام عند كافة فئات وطوائف المجتمع، ويعيش الجميع في أمنٍ واستقرارٍ وطمأنينة.

وهذا النهج في اتخاذ القرار نحتاج إليه في مجالات أخرى غير المجال السياسي، وبالتحديد عندما تكون هناك حاجة لاتخاذ قرارٍ يخص البيئة والحياة الفطرية ويؤثر على مواردها الحية وغير الحية، حيث لا بد من اختيار مبدأ "التوفيق والاعتدال والتوازن"،وتبني هذا النهج "الوسطي"عند اتخاذ مثل هذا القرار وعند تنفيذه، حتى نضمن أن يكون قرارنا وعملنا مستداماً،ولا يطغى أي جانبٍ من جوانب حياتنا على الجانب الآخر، فتتعايش كافة عناصر ومكونات البيئة في أمنٍ وسلامٍ وعطاءٍ دائم.

ولكن واقعياً وعملياً فإن هذا القرار صعب جداً ومعقد، وبحاجة إلى دراسات علمية معمقة ومتأنية للتعرف عن كثب على أبعاد القرار على كافة الجوانب وتأثيراتها المحتملة عليها.

ومن أفضل الأمثلة التي يمكن طرحها لبيان صعوبة القرار البيئي هي استخدام الإنسان للمبيدات بكافة أنواعها، سواء أكانت مبيدات حشرية، أو مبيدات الأعشاب، أو مبيدات الطفيليات والفطريات وغيرها من الأنواع التي لا تعد ولا تحصى.

فالإنسان في بداية حربه الطويلة التي لن تنتهي مع الحشرات والآفات للقضاء على الأمراض المعدية والفتاكة التي كانت تقضي على الملايين من البشر، استخدام مواد كيميائية، وعلى رأسها المبيد الحشري المعروف دي دي تي، ونجح فعلاً بشكل مؤقت في حماية صحة الإنسان والحفاظ على أرواح الملايين من البشر من الفناء المحتوم، ولكن ما لم يعرفه الإنسان نفسه أنه فشل فشلاً ذريعاً في جانبٍ آخر متعلق أيضاً بصحة الإنسان وسلامته، فلم يعلم الإنسان أنه فعلاً قتل الحشرات ولكن في الوقت نفسه أدخل سماً قاتلاً في بيئته فقتل الحشرات الأخرى والإنسان معاً بطريقة غير مباشرة وعلى المدى البعيد، أي بعبارة أخرى فقد قام الإنسان بحل مشكلة مزمنة وخلق لنفسه مشكلة أخرى مزمنة أيضاً، ولا تقل خطورة وتهديداً لصحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى من المشكلة الأولى.

فمن المعروف الآن وبعد تجارب وخبرات مريرة عانى منها الإنسان، أن هذه المواد الخطرة والسموم التي أدخلها بيديه في بيئته، قد تراكمت مع الزمن في أعضاء الكائنات البرية والبحرية والطيور، ثم انتقلت إلى الإنسان عبر السلسلة الغذائية، حتى أنها أثرت على الجنين وهو في بطن أمه وأثرت على حليب الأم الذي تلوث بهذه المبيدات.

فالدراسات أكدت الآن أن هذه المبيدات انتشرت في كافة أرجاء مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، ولم يبق شبر من بيئتنا قريباً كان أم بعيداً إلا وقد تسمم بهذه المبيدات، ومن أمثلة الأبحاث التي أكدت على هذه الحقيقة تلك المنشورة في سبتمبر من العام الجاري في المجلة الأمريكية علوم وتقنية البيئة حيث قامت بقياس تركيز عدة أنواع من المبيدات التي استخدمت في الولايات المتحدة الأمريكية في المناطق الزراعية والحضرية خلال العقود الماضية في المسطحات المائية من أنهار وبحيرات خلال الفترة من 1992-2011، حيث أشارت إلى وجود هذه السموم في معظم هذه المسطحات المائية.

ومما يؤكد سمية هذه المبيدات وقدرتها على قتل الإنسان، الإحصاءات المنشورة من منظمة الصحة العالمية في 4 سبتمبر من العام الجاري أن هناك نحو 800 ألف إنسان يقتل نفسه سنوياً على المستوى الدولي، أي بواقع روحٍ بريئةٍ تزهق كل 40 ثانية، وتؤكد المنظمة أن المبيدات هي الوسيلة الأكثر شيوعاً والأكثر استخداماً للانتحار، ودرجة استخدامها يختلف من بلدٍ إلى آخر، ومن منطقةٍ إلى أخرى.

ولذلك فنحن أمام قضيةٍ بيئية وصحية شائكة ومتداخلة، والقرار يجب أن يكون توافقياً ومتزناً يحقق الأمن والسلامة لكافة الجوانب ذات العلاقة، فاستخدام المبيدات شر لا بد منه، ولكن يجب على هذا الاستخدام أن يكون مبنياً على دراسات علمية ميدانية، وأن يكون استعمالها رشيداً ومعتدلاً وبقدرٍ معلوم، بحيث لا يرجع تأثيرها مع الوقت على الإنسان نفسه والكائنات التي تعيش معه، ولا يبني في قطاع واحد ويهدم ويفسد في قطاعٍ آخر، وإلا فعدم الاستخدام ربما يكون أكثر جدوى من الناحيتين الصحية والبيئية على المدى البعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق