الأربعاء، 9 مارس 2016

أمريكا دولة مُتَأخرة


إذا سافرتَ يوماً ما إلى إحدى دول العالم في الشرق أو في الغرب وتجولت في مدنها وأحيائها وشاهدت بحيرات من مياه المجاري وهي تجري كالأنهار في أحيائها، أو رأيت بركاً آسنة من هذه المياه الملوثة التي تخرج من المنازل فلا تجد طريقها سوى إلى المستنقعات الفاسدة، فتتجمع فيها وتتراكم في بطنها الملوثات العفنة الحيوية والكيميائية وتنبعث منها الروائح الفاسدة والكريهة وتُعرض الناس للأمراض المعدية المزمنة والقاتلة، فلا شك بأنك ستصف هذه المدينة بأنها متأخرة وبعيدة عن التقدم بُعد المشرق عن المغرب، وربما لن ترجع إليها فتزورها مرة ثانية، حيث إن هذه المظاهر التي رأيتها قد أصبحت بالنسبة للدول الراقية والمتطورة من مشاهد الماضي الغابر التي كانت تُرى في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وتم الآن القضاء عليها كلياً.

 

وإذا وقعتْ عيناك وأنت تزور دولة أخرى وتتسوح في مدنها على كومات من القمامة المتناثرة في طرقاتها وشوارعها العامة، أو على تلال من المخلفات المنزلية المتراكمة على أبواب منازلها وفي أسواقها ومحطاتها ومراكزها التجارية، أو أنك ترى تدنياً عاماً في مستوى النظافة ووجود الزبالة والمخلفات الصلبة في كل مكان ومن كل صوب وحدب، فلا ريب بأنك ستأخذ انطباعاً سيئاً عن هذه البلدة ومدنها القذرة، وتُصنفها من دول العالم الثالث الفقيرة وغير المتقدمة والرجعية والمتَخلفة، فهذه المظاهر التي رأيتها تُعد من مشكلات وقضايا القرون الماضية للدول الصناعية المتقدمة.

 

ولذلك فمشاهدتك لهذه الصور غير الحضارية في أية دولة تدل على هوية هذه الدولة وسمعتها، وتُعتبر من مؤشرات تقدمها أو تخلفها، وتثبت للعالم رُقيها أو تأخرها، وتبين للناس تطورها أو رجعيتها.

 

ولكن في المقابل هناك الكثير من مظاهر القرن التاسع عشر والقرن العشرين التي أكل عليها الآن الدهر وشرب وكانت موجودة في تلك الحقبة من الزمن في الدول المتقدمة ومن المفروض أنها أصبحت الآن مشهداً من الماضي وجزءاً من التاريخ الحديث، فمازالت هذه المظاهر تُرى اليوم في أكثر الدول تقدماً في العالم، وأشدها رقياً وتطوراً مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هذه المظاهر والصور لا يراها كل إنسان، ولا يستطيع كشفها بحواسه الخمسة، ولا يستطيع الناس العاديين والبسطاء مشاهدتها والتعرف عليها، فيكشفونها عادةً العلماء المتخصصون والباحثون الميدانيون.

 

فعلى سبيل المثال، التسمم بالرصاص وارتفاع تركيزه في الدم، وبخاصة عند الأطفال كان من مشكلات القرن الماضي عندما كانت هناك مصادر متعددة للرصاص في البيئة، فيتعرض لها الناس بشكلٍ عام والأطفال بصفةٍ خاصة، كمركبات الرصاص التي كانت تُضاف إلى وقود السيارات، وبالتحديد الجازولين وتمت إزالتها في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم أو بالتحديد عام 1975 من وقود السيارات، أو مركبات الرصاص التي كانت تضاف إلى دهان المنازل ثم تم التخلص منها عام 1978، أو أنابيب الرصاص التي كانت تستخدم لنقل المياه تحت الأرض إلى المنازل. فكل هذه المصادر للرصاص التي كانت تلوث الهواء والماء والتربة انتهت منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وبات التلوث بالرصاص وتسمم الدم به من مظاهر الماضي القديم التي تم التخلص منها في كل الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة.

 

والآن وبعد مضي أكثر من أربعين عاماً، تكشف لنا الدراسات والتقارير العلمية أن هذه الظاهرة التي تُعد حالياً من مؤشرات تخلف الدول وتأخرها، كتسرب مياه المجاري وانتشار القمامة، مازالت تكشر عن أنيابها في الكثير من مدن أمريكا ودماء أطفالهم قد تشبعت بمستويات عالية من هذا الملوث القديم وهو الرصاص. وجاء تقرير صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في الثالث من مارس من العام الجاري ليفضح انتشار هذه المشاهد الرجعية والمتخلفة في بعض المدن الأمريكية العريقة كنيويورك، وأتلنتا، وفيلادلفيا. فهذا التقرير الصحفي يُقدم عدة أمثلة على واقعية هذه المشكلة القديمة في مدن أمريكا، وأن أمريكا بالرغم من وصولها إلى المريخ فإنها مازالت متأخرة ومتخلفة في جوانب أخرى متعلقة بصحة وبيئة الإنسان، فلم تحل ولم تتخلص من مشكلات القرن المنصرم، ومن بين هذه المدن مدينة كليفلند(Cleveland) في ولاية أوهايو(Ohio)، حيث بلغت نسبة الأطفال الذين تسممت دماؤهم بالرصاص 14.2%، ويعزى السبب الرئيس في عدم اختفاء هذه الظاهرة الرجعية حتى يومنا هذا إلى وجود نحو 37 مليون منزل وشقة في مدن أمريكا والتي مازال الدهان القديم الذي يحتوي على الرصاص منذ عقود موجوداً على جدرانها، كما أكدت التحاليل المخبرية في عام 2010 أن نحو 7.7% من أطفال أمريكا السود الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات كانت دماؤهم ملوثة بالرصاص بتركيز أعلى من 5 ميكروجرامات من الرصاص في الديسيلتر من الدم، وذلك حسب تقارير مراكز ومنع والتحكم في المرض.

 

وجدير بالذكر أن معظم المنازل الملوثة بالرصاص ومعظم الأطفال الذين ترتفع في دمائهم نسبة الرصاص هم من الفقراء والمستضعفين السود، ومن الأقليات غير المتعلمة وغير المثقفة الذين لا حول لهم ولا قوة، وليس لهم وزن سياسي أو مالي أو اجتماعي، مما يؤكد استمرارية وجود ظاهرة العنصرية البيئية في أمريكا وفقدان العدالة البيئية بين المواطنين.

 

فهذه هي أمريكا عن كثب ومن الداخل لمن لا يعرف حقيقتها، فتَغُره مظاهر العظمة العسكرية والتقدم العلمي والتقني الكبيرين.

         

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق